ففي أيام قليلة تم اعتقال بعض بارونات الفساد والتهريب ..بارونات كانوا يعتبرون أنفسهم قبيل ذلك فوق القانون وفوق المحاسبة بل كانت أوساط نافذة في الدولة والمجتمع تقتات على موائدهم وتوهمهم بحصانة ليس فوقها حصانة.. بل وصل الأمر ببعضهم للتنظير لحالة التعايش الدائمة مع الفساد تحت مسميات شتى تصب كلّها في مصب واحد : تبييض وجوه الفساد وتبرير التعامل معها بل والاعتراف بفضائلها الاجتماعية والسياسية (نعم هكذا !!)..
من المفارقات الكبرى للثورة التونسية أن لوبيات الفساد والتهريب بعد أن أصاب بعض شبكاتها ارتباك في الأسابيع الأولى بعد هروب بن علي عادت للاشتغال بأقصى سرعة مستغلة ضعف الدولة وتراجع حضور المؤسسة الأمنية واستفادت من كل الانفلاتات وخاصة من الحرب على الإرهاب التي شغلت جلّ الأجهزة الأمنية والعسكرية لكي تنسج خيوطها في دوائرها ومناطقها الخاصة بالنسبة لجلّ هذه الشبكات .
أما بعضها فقد أصابه الغرور فتمدد سريعا وخرج من البوتقة الأصلية للتهريب والتهرب الديواني والضريبي بأنواعه إلى اختراق جلّ مؤسسات الدولة والسعي لاكتساب عذرية جديدة من بوابة الأعمال والسياسة ..فأصبح المهرب «رجل أعمال» ثم «رجل سياسة» ولو لا بعض الحياء أو العقد لتحول إلى «رجل فكر وثقافة» أيضا..
ويكفي أن نجيل النظر في تجربة هذه السنوات الست لنرى كم كانت كثيرة محاولات اختراق الحياة السياسية من قبل هؤلاء وقد تصرفوا مع هذا العالم الجديد كما كانوا يتصرفون مع الشبكات التي كانت تسندهم وتتستر عليهم في عملية التهريب : شراء الذمم بالأموال ..فتلك هي «السياسة» الوحيدة التي خبروها وجرّبوها ..
بعض الأحزاب السياسية كانت تتقي الله في شرفها، قدر الإمكان، أمام هذا الإغراء الجديد.. بعضها كان حذرا في التعامل مع «الممولين» الجدد وبعضها كان أقل حذرا وبعضها عمل منذ البداية بمقولة أن المال كالماء لا لون ولا طعم له ..
عمق هذه الشبكات وتعقدها كان يوهم أصحابها والمنتفعين منها بأنها أضحت القدر الجديد لتونس وان معارضتها لا تعني شيئا بل هي «شعبوية» تنقم على الناس نجاحاتهم المالية ..والجواب كان دائما جاهزا : من لديه إثباتات بأن مصادر هذه الأموال مشبوهة فليقدم حججه للقضاء..
ولقد اشتغلت شبكات الفساد هذه على اختراق الطبقة السياسية بمناسبة الانتخابات التشريعية والرئاسية في خريف 2014 إمّا بترشيح بعض رموزها أو بتمويل جزئي لحملات انتخابية لبعض الأحزاب التي كانت ترجّح احتمال انتصارها في الانتخابات ..
ولكن وفي ذات الوقت كان هنالك سعي مزدوج لاختراق عالمي الإعلام والأعمال معا..في الإعلام لتبييض رموز الشبكات أو للتهجم على خصومها وفي عالم الأعمال تم إغراء البعض بالربح السريع عبر التهريب والتهرب الديواني والضريبي.. والهدف الاقصى كان هو التشابك بين الاقتصاد المنظم والاقتصاد الموازي.
ولسنا ندري إلى أي حد وصل اختراق هذين العالمين ولكن مؤشرات عديدة تفيد بتورط عدد من رجال الأعمال في علاقات «شراكة» مع هذه الشبكات ..وهكذا تصور بعضهم بأن تشبيك كل هذه الشبكات (في الديوانة والأمن والقضاء والإدارة والإعلام والسياسة ) هو الذي سيحصنها ضد كل استهداف ممكن..
كل هذه الحسابات سقطت في ساعات قليلة ولكن هذا لا يعني أن شبكات الفساد أوهن من بيت العنكبوت وأنها ستنهار جميعها نتيجة اعتقال بعض رموزها ..بل سنشهد بدءا من هذه الأيام حملة مضادة عنيفة تساند مكافحة الفساد في الظاهر وتدعو الى إعمال «العقل» والى عدم الزجّ بالجميع في «سلة واحدة» وسوف يقسم أمامنا بعض «أصدقاء» المعتقلين بأنهم انصع من البياض وان «أخلاقهم» لا تسمح لهم بأن يباعوا ويشتروا .. وسوف تضع كل هذه الشبكات المقطوع رأسها كل الثقل الذي تملك بألا تتجاوز الحرب على الفساد الإطاحة ببعض الرموز التي تم اعتقالها و«كفى الله المؤمنين شر القتال»..
أولى هذه المعارك وأهمها وأخطرها على مصير البلاد هي تلك التي ستدور رحاها في مجلس نواب الشعب بين غالبية لم تتورط في الفساد ولكن صوت جلّها غير قوي في هذه المعركة وأقلية تحوم حولها شبهات كثيرة وصوتها مرتفع وستسعى بكل ما أوتيت من قوة للإفلات من التتبع الأخلاقي أولا والقضائي ثانيا ..
مجموعة من النواب بادروا بالإعلان عن عدم تمسكهم بالحصانة البرلمانية في صورة ما تعلقت بهم قضية في الفساد..
لو أرادت المؤسسة التشريعية أن تستعيد ثقة كل التونسيين عليها أن تنخرط بكل أعضائها في هذه المبادرة ولو أرادت المؤسسة القضائية المصالحة النهائية مع الرأي العام عليها هي كذلك أن تسعى بكل الإمكانيات المتاحة أمامها – وهي كثيرة – إلى اقتلاع الاخطبوط بكل فروعه ..دون أن تراعي في ذلك لا حسابات سياسية أو عائلية أو غيرها ..
لا نريد محاكم إعلامية أو شعبية أو أحكاما على المقاس ..نريد عدالة عادلة وناجزة لا تؤاخذ بالشبهة ولا تتستر على الفاسدين ..
هذه هي المعركة الأساسية لتونس اليوم وكل تشويش عليها بمعارك جانبية او بانتصاب فوضوي لمحاكم شعبية لا شرعية لها إنّما ستستفيد منها شبكات الفساد لا غير فالتونسيون لا يريدون إلاّ العدالة ..ولكن كل العدالة ولا شيء غير العدالة ..
يخطىء من يعتقد بأن المشهد السياسي الحالي سيبقى على شاكلته هذه إذا ما تم انفاذ الحرب على الفساد إلى نهايتها المنطقية.