منعرج جديد في الحرب على الفساد: المصادرة والإحالة على المحكمة العسكرية

مسائل كثيرة تغيرت في أيام قليلة من بداية (ونشدد على كلمة بداية ) الحرب على الفساد وشبكاته ورموزه وفلوله..في أيام قليلة انقلبت موازين القوى رأسا على عقب وأصبح الفساد منكفئا ،مختفيا،متخفيا

يمشي على «حياء» بعد أن كان يصول ويجول في صلف لا نظير له..

لقد انتظرت الدولة التونسية أكثر من ست سنوات لتقرر ، في النهاية ، شن حرب على الفساد .وما يدل على غياب الاستعداد الكلي لهذه الحرب فيما سبق هو اضطرار السلطة التنفيذية للاعتماد على قوانين وإجراءات استثنائية كحالة الطوارئ ومرسوم المصادرة لكي تبدأ في هذه الحرب التي تأخرت كثيرا في بلادنا ..

نعيش اليوم حالة نفسية جماعية خاصة جدّا تتقاذفنا فيها مشاعر متناقضة بين أمل التخلص نهائيا من أخطبوط الفساد وبين التخوف من اقتصار العملية على بعض الرموز دون المرور إلى اجتثاث فعلي للشبكات..والأمر لا يتعلق فقط بصدق عزم الحكومة بل بجدية كامل منظومة الحكم والسلطة..ونحن نعلم جيدا أن أطرافا نافذة عديدة تريد لهذه الحملة أن تمر «بأخف الأضرار الممكنة..»

ولكن أيّا يكن من أمر فلا بد من أن نقر بأننا أمام نقطة فارقة ومسار جديد تماما افتتحته حكومة يوسف الشاهد وقد اختارت أن تباغت شبكات الفساد والتهريب وان تضرب بأقصى قوة ممكنة وباستعمال أقصى ما تسمح به الإجراءات الاستثنائية المتضمنة في إعلان حالة الطوارئ وفي مرسوم المصادرة ..

نحن في بداية الإعلان الفعلي والجدي للحرب على الفساد..والفساد لا يكمن فقط في أباطرة التهريب وان كانوا من اخطر أدواته ومن اكبر مموليه..فالفساد شبكات : بعضها داخل الاقتصاد المنظم والآخر داخل أجهزة الدولة وهو قد اخترق جزءا من الطبقة السياسية والإعلامية إلى أن اعتقد بعض التونسيين بأنه لا مناص من التعايش مع هذا الاخطبوط ..

منذ يوم شهدنا بداية المنعرج القضائي لهذه الحرب بتمرير ملف أحد المعتقلين وهو شفيق جراية إلى القضاء العسكري بتهم خطيرة جدا حسب ما أفادت به وكالة الدولة العامة لإدارة القضاء العسكري (انظر مقال حسان العيادي صفحة 4 - 5 ) والمتوقع أن تقرر النيابة العمومية بالقطب القضائي المالي فتح بحث تحقيقي في المعتقلين الآخرين أو بعضهم على الأقل إذ لا يستبعد أن يختص القضاء العسكري بأفراد شملتهم أو ستشملهم حملة الاعتقالات هذه..

ما يطالب به كل التونسيين هو أن يتمكن القضاء لا من محاسبة المعتقلين فحسب ولكن من كشف كل الشبكات التي كونوها..فلا معنى للحكم على احد أباطرة التهريب والفساد بالسجن المؤبد، على سبيل المثال ، ما لم يتوصل القضاء إلى تعرية كامل الشبكة التي استفادت وأفادت من هذا المعتقل بدءا بالديوانة والأمن والجباية والقضاء وصولا إلى المحاماة والسياسة والإعلام ..

فالحرب الجدية على الفساد هي حرب اجتثاث كامل الشبكة لا التضحية برأسها لان ذلك يصبح تعتيما على الفساد ومشاركة فيه حتى وان لم تكن مقصودة..

فالأهم في المرحلة القضائية ليست الأحكام التي ستصدر عن الذين اعتقلتهم السلطة التنفيذية بل عن «كل من سيكشف عنه البحث» وفي كل حالة المتورطون كثر وفيهم عناصر نافذة في القطاعات التي ذكرنا..

ستكون نكسة كبيرة للتونسيين لو أفلتت شبكات الإسناد والدعم وتبييض الفساد من شباك المحاسبة القضائية ..

ينبغي الحذر من السقوط في ثورجية مضرة بهذا المسار التصحيحي وان نرى في كل رجل أعمال أو عون ديواني أو امني أو قاض أو محام أو سياسي أو إعلامي فاسدا بالقوة إلى أن تثبت براءته..لا ينبغي أن نقيم محاكمة شعبية في وسائل الإعلام لمحاكمة زيد أو عمرو..النبراس واضح في هذه الحرب: تفكيك شبكات الفساد بالحجة لا بمجرد الريبة ..ولكن أن تحمى شبكات الفساد بتعلة شكلانية قانونية مغلوطة فلا وألف لا..

نحن لا نأتي بجديد عندما نقول بأن جريمة الفساد جريمة معقدة ، ككل جريمة منظمة ، فيها العقل المدبر والمنفذ والمستفيد والذي يتولى الحماية الأمامية أو الخلفية الخ..وفي هذا السياق ينبغي تثمين ما أقدم عليه يوم أمس عدد من أعضاء مجلس نواب الشعب عندما التزموا بعدم التمسك بالحصانة لو كانوا محلّ تحقيق في قضية فساد.. وما نتمناه هو أن يلتزم بهذا المبدأ كل نواب المجلس مع علمنا سلفا بأن فيهم من هو ضالع بكل وضوح في شبكات الفساد هذه وانه من شرف السياسة وشرف تمثيل الشعب أن تتطهر منهم السلطة التشريعية بصفة كلية ..

هذه بدايات الحرب وسوف تستمر لسنوات طويلة ولكن إذا ما صدق عزم السلطة السياسية والمؤسسات الأساسية للدولة مسنودة برأي عام يقظ فتونس ستربح هذه الحرب لا محالة وسنحقق بذلك ثاني

مطالب الثورة بعد تقدمنا الواضح في طريق الانتقال الديمقراطي...

والأهم من كل ذلك سنعيد الأمل إلى شبابنا لبناء حلم جميل مشترك..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115