لقد هبت المنظمات والجمعيات والهيئات الدولية منذ الشهور الأولى من سنة 2011 لمساعدة تونس حتى تحسن بناء مسار يضمن لها المرور من نظام استبدادي قهري وفاسد إلى نظام سياسي ديمقراطي ونظام اجتماعي عادل يحقق الكرامة للجميع. ولكن قلّة أولائك الذين آمنوا بأهمية الإصلاحات الجوهرية وضرورة تغيير البنية الذهنية... ظلّ أغلبهم ميالا إلى الإفادة من تراث هيمنت فيه حسابات «الغنيمة والقبيلة والعصبية» فكان مدار الصراع بين نواب الشعب وقياديي الأحزاب وغيرهم على إشباع الرغبات وتحقيق الامتيازات والعبّ من ملاذ جاءت بها «ثورة الشباب»...
وما دار بخلد الجميع أنّ الشباب الذي تنازل عن حقه في التعبير عن رأيه وعن المشاركة في الانتخابات والفعل في الواقع والصمود يواجه موجة الانحدار والتلاعب بعقول الناس ... بإمكانه أن يغادر موقع الملاحظ، ويتحوّل إلى قوّة تدفع باتجاه التحولات الاجتماعية العميقة وتحقيق العدالة. وما تفطن أصحاب القرار سياسيا وإعلاميا واقتصاديا إلى أنّ سياسة الفرض: فرض السياسات من فوق ، فرض ثقافة الرداءة في عدد من وسائل الإعلام، فرض الإفلات من العقاب وترسيخ ممارسات ذات صلة بمنظومة الفساد وفرض المصالحة بالقوة... قد تؤدي إلى تأجيج الصراعات وتغيير المسار رأسا على عقب.
كان بإمكان هذه التحركات أن تنال إجماع أغلب التونسيين لولا انزياحها عن المبادئ الأساسية التي تحكم الحركات الاجتماعية ولكن ككلّ قوّة تحركها مشاعر الغضب والمقت والإحساس بالدونية والكره والرغبة في انتزاع الاعتراف والتموقع كسلطة قادرة على الفعل في الواقع...يحدث أن تحيد الحركات الاجتماعية عن مبادئها وتنزاح عن الطريق فتغيب الرصانة ويجد الفاعلون صعوبة في عقلنة المواقف فيختلط الحابل بالنابل وتتحول التحركات الاحتجاجية السلمية إلى عنف لا مرية فيه. ويغدو الاعتراف بالتقصير في الـتأطير وبارتكاب الأخطاء عسيرا ويتحول خطاب تبرير الحرق والتدمير متماهيا في أكثر الحالات مع خطاب بعض «متحذلقي» السياسة.
تحركات الشباب في تطاوين ليست إلا اختبارا عسيرا لهؤلاء قبل أن يكون اختبارا لصانعي السياسات والمشرفين على مختلف المؤسسات الرسمية... لقد فضحت هذه التحركات أزمة الثقة الممأسسة في أجهزة الدولة وعسر ولادة الأنموذج الديمقراطي والنظام الاجتماعي العادل ولكنّها عرّت واقعا آخر لابدّ أن نحدّق فيه بملء العين: الدمار الذي ألحقته سنوات الحرمان والتهميش و«الحقرة» وانتهاك الكرامة والقمع وتردي مستوى التعليم والثقافة ... فقبل أن نُدين هؤلاء الذين لا يحسنون الكلام والتصرف والسلوك وما فارقوا «الهمجية» علينا أن نتساءل ماذا قدّمنا لهم ؟ وما هي الفضاءات التي وفرناها لهم حتى يتعلموا فن الخطابة والمناظرة الرصينة ؟ وقبل أن نتهم هؤلاء بالخيانة والأنانية والتهور علينا أن نخضع وسائل التنشئة: المدارس والمعاهد والجامعات والإعلام والمساجد وغيرها للمساءلة.
ليس «تهوّر» شباب تطاوين وغيرها من المدن المنسية وسوء فهمهم وتقديرهم للأمور إلاّ المرآة التي لا نريد أن نرى فيها أزماتنا وما أكثرها ...