سوف يتساءل علماء الاجتماع السياسي طويلا هل أن ماكرون هو ابن المنظومة المدلل الذي يسعى اليوم لتجديدها من الداخل وهل انه صنيعتها و«بضاعتها» الجديدة التي تسمح ببقائها تحت مسمى التجديد ؟ أم أنّ المغامرة الشخصية لهذا الشاب قد صادفت ترهل منظومة حكم بأسرها تطابقت – ولو جزئيا – مع الطلب العميق في ديمقراطية عريقة ولكنها مكبلة إلى التجديد والإصلاح؟!
أيا يكن الأمر فانتصار ماكرون – على عكس انتصار ترامب والبريكسيت – يمثل انتصار ما يمكن أن نسميه بالعولمة السعيدة والتي تعتبر بان سلبيات العولمة المتسمه بالتنافس على الضغط على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية خاصة للطبقة الشعبية في الدول الغربية إنّما يتم اصلاحها بمزيد من الانفتاح على العالم لا بالانغلاق داخل الحدود الاقتصادية والثقافية للوطن الواحد واعتبار أن الوافد والمهاجر هو أصل الداء وان النزاعات الحمائية المنغلقة هي لبّ الدواء..
عبقرية هذا الشاب /الرئيس تمثلت في خلق حلم حول مفاهيم تحوم حولها شكوك كبيرة داخل فرنسا وكل دول الدنيا: العولمة والاتحاد الأوروبي والانفتاح على الآخرين...
المعطيات الموضوعية لا تصنع لوحدها التاريخ.. فهذه المغامرة الجسورة ما كان لها أن تصل إلى هذه النتيجة الباهرة لو لا جملة من الجزئيات حصلت هذه الأشهر الأخيرة أهمها الانسحاب الاضطراري لعدة شخصيات وازنة في اليمين واليسار وكذلك الفضيحة التي ألمت بمرشح اليمين والوسط فرنسوا فيون.. كما أن الدعم الكبير الذي وجده هذا «الماشي» من أوساط مالية وسياسية وإعلامية نافذة قد ساعده ولاشك على بلوغ مراده دون أن يعني ذلك وفق التفسير التآمري للأحداث بان يتحول ماكرون إلى «صنيعة» منظومة خفية تتحكم في مصائر الناس من غرف مغلقة ومظلمة..
الواقع دوما اقل نسقية وانسيابية من كل التفسيرات الكلية ولكن لاشك أننا أمام اجتماع عناصر عدّة جعلت ما كان يعدّ مستحيلا قبل أشهر قليلة أمرا ممكنا : هزيمة الحزبين الأساسيين في فرنسا (الجمهوريون والاشتراكيون ) في انتخابات ظلت لعقود محصورة في زعاماتها ..ولكن هذه الهزيمة ستكون لها استتباعات عميقة على الأقل بالنسبة للحزب الاشتراكي المؤسس منذ سنة 1905 تحت مسمى « الفرع الفرنسي للأممية العمالية» الذي لفظ أنفاسه الأخيرة في حين انه كان حزب الأغلبية في هذه الخماسية المنصرمة..
ولكن حسن الطالع قد لا يستمر طويلا لهذا «الماشي» على الماء بداية لأنه دون أغلبية برلمانية في جوان القادم ستبقى رئاسته صورية إلى حدّ كبير.. ولكن حتى لو افترضنا حصوله على أغلبية نيابية فلا شيء يؤكد اليوم قدرته على نجاح فائق في التحدي الأساسي لحكام فرنسا منذ ثلاثين سنة : وضع حدّ لأكبر معدل بطالة في الدول العظمى (حوالي %10) ولاشيء يفيد بان قراراته الأولى لإصلاح قانون الشغل سوف تلقى التأييد من قبل الفئات الشعبية والنقابات..
انتصار ماكرون قد يعني الموت السريري للحزب الاشتراكي ولكنه لن يقضي على اليمين أو أقصى اليمين أو اليسار الراديكالي وفرنسا لن تكون النهر الهادئ للماشين على الماء..
ولكن الأهم في السياسة كما الحال في الرياضة ليس الوصول إلى القمة بل البقاء فيها.. أي أن تتحول حركة ماكرون إلى حزب فعلي قادر على خوض غمار كل الانتخابات القادمة والفوز فيها أو الصمود على الأقل..والاهم أيضا ألاّ يكون ماكرون حالة فردية تنتهي مع صاحبها بل حالة سياسية تبدو قادرة على الدوام وعلى البقاء بعد مؤسسها.. ولكن في انتصار ماكرون عبرة كبيرة لكل المتشبثين بمنظومات حزبية مهترئة..
فأحزاب الحكم أيا كان عمقها التاريخي ووزنها الانتخابي كائنات حية ..تولد وتموت أيضا..
وفي ذلك عبرة لكل من يعتبر ..