وتواصل الحديث بعدها ولكن لم تفصح أية حكومة بالضبط عن المضمون التفصيلي لهذه الإصلاحات «الموجعة» ولم تقل لنا كذلك لمن ستكون «موجعة» وبأية نسب كذلك..
وأحيانا تغيّب السلطة التنفيذية توصيف هذه الإصلاحات مفضلة عبارة «محايدة» كتكرار القول بضرورة القيام بإصلاحات وإلا لدفعنا دفعا لسياسة تقشفية. اليوم تعود هذه الإصلاحات «الموجعة» إلى الواجهة ويبدو أنه لم يعد لنا من مفرّ منها..
فجوهر هذه الإصلاحات «الموجعة» هو التحكم في الإنفاق العمومي باتجاه التقليص منه أو على الأقل التقليص من نسبته في ميزانية الدولة وفي الناتج المحلي الإجمالي..
واليوم ، أحببنا ذلك أم كرهنا ، أصبحنا تحت الرقابة الدقيقة لصندوق النقد الدولي ولبعثاته التقنية التي ستزورنا مرتين في السنة لتتأكد كل مرّة من تقدمنا في نسق الإصلاحات هذه ودون ذلك فهي لن تقرر صرف الأقساط الستة المتبقية من قرض الصندوق وما ينجر عن ذلك من انسداد تدفق القروض على البلاد..
البيان الإعلامي الذي أصدرته البعثة التقنية لصندوق النقد الدولي يوم الاثنين الفارط يمثل خارطة طريق بحد ذاتها.
فالنقطة المحورية الأساسية هي خفض «فاتورة الأجور» في الوظيفة العمومية حسب تعبير البيان ،هذه النسبة التي اقتربت بصفة خطيرة من مستوى %15 من الناتج المحلي الإجمالي ينبغي أن تنخفض إلى %12 في موفى سنة 2020..
ويبدو أن هذا هو الامتحان الأصعب للحكومة التونسية إذ ينبغي عليها إرضاء مطلبين متناقضين لشريكين أساسيين لها : صندوق النقد الدولي من جهة والاتحاد العام التونسي للشغل من جهة أخرى..
الفكرة التي تشتغل عليها الحكومة هي التسريح الاختياري للموظفين من صنفين مختلفين : الأول لمن هم بين 57 و59 سنة وعددهم الإجمالي يقدر بحوالي 50 ألف موظف والثاني لتشجيع الموظفين الكهول على الانتصاب للحساب الخاص..
كم سينخرط من موظف في هذين البرنامجين ؟
الحكومة لا تملك جوابا إلى حدّ الآن والخشية هي ألاّ يتجاوز هذه العدد عشرة آلاف موظف أي %1.5 من مجموع الموظفين وانعكاسه على تخفيض نسبة كتلة الأجور من الناتج المحلي لن تتجاوز %0.2 علاوة على الكلفة الآنية المرتفعة لعملية التسريح هذه..
لكي يكون لبرنامج الحكومة الفاعلية المطلوبة يجب أن يبلغ عدد المسرحين حوالي 25.000 موظف وألاّ يكون من بينهم خيرة ما نملك من كفاءات وإطارات..
أي أن حجر الأساس في الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي غير مضمون بهذا الإجراء الحكومي..والحكومة لا تملك خطة بديلة من صنف التسريح الإجباري لان ذلك سيفتح عليها نيران الاحتجاج من كل مكان..
ثم حتى لو افترضنا عدم تعويض كل المغادرين للتقاعد من صنف تعويض النصف فقط فهذا لن يحد من عدد الموظفين إلى موفى 2020 إلا بحوالي 30.000 شخص أي أقل من %5 من العدد الجملي للموظفين وانعكاسه على نسبة كتلة الأجور لن يتجاوز %0.8 في كل الحالات.. أي أننا سنكون بعيدين عن نسبة %12 سنة 2020..
العنصر الوحيد المتبقي لدى الحكومة هو تحقيق معدل نمو يتجاوز %3 خلال هذه السنوات الثلاث القادمة وان تتطور كتلة الأجور بالأسعار القارة في حدود %2 فقط..ولكن حتى هذه الفرضية تبقى مرتهنة بقدرة الحكومة على إقناع الشريك النقابي في زيادات محدودة جدّا لسنوات 2018 - 2020 وهذه معركة ليست مربوحة سلفا ..
إمكانية وحيدة تحقق بغية الحكومة ولكنها تضطرها لاستعمال سلاح خطير وهو التضخم.. فتضخم بنسبة 7 أو %8 مع تحكم في الزيادات يؤدي بعد سنتين أو ثلاث إلى تقليص كبير في نسبة كتلة الأجور ولكن سيكون ذلك على حساب القدرة الشرائية للموظفين..
يمكن أن نقول بأن الإصلاحات «الموجعة» الأخرى هي أقل حدّة من التراجع بنسبة كتلة الأجور ..
فالترفيع الإجباري في سن التقاعد بسنتين أو ثلاث قد لا يجد معارضة قوية كما كان الشأن في السنة الفارطة لأن العقول قد نضجت له وأضحى الجميع مقتنعا بأن من شروط ديمومة المنظومة الاجتماعية هو الترفيع الإجباري في سن التقاعد..
الحدّ من دعم المحروقات ، في حدّ ذاته، لا يمثل إشكالا يذكر..ولكن لو تزامنت كل هذه الإصلاحات مع بعضها وهذا الذي سيحصل فعلا ، فسنكون قد أثقلنا كثيرا كاهل الطبقات الوسطى والشعبية وستكون هي الضحية الأساسية لهذه الإصلاحات الموجعة أي أنه لا ينبغي استبعاد احتجاجات اجتماعية واسعة ضدّها ممّا يفقد الحكومة القدرة على حسن القيام بها..
كل هذا دون الحديث عن الانزلاق المرتقب للدينار مقابل العملات الأجنبية الأساسية بما لا يقل عن %10 بما سيعطينا تضخما مستوردا هاما إضافة إلى ارتفاع نسبة مديونيتنا بصفة آلية بأربع نقاط ونصف.
وضعية واحدة تجعل من طريق هذه الإصلاحات سالكة هي تحقيق معدلات نمو مرتفعة نسبيا بدءا بـ %2.5 هذه السنة ..
منتصف ماي القادم سيعطينا صورة أولية عن الطريق التي سنسلكها وذلك عندما يصدر المعهد الوطني للإحصاء نسبة تطور الناتج الإجمالي المحلي في الثلاثي الأول لسنة 2017.. فوق %2 نكون قد خطونا خطوة في الطريق السليم ..أما لو حققنا ما دون ذلك فقد تتعقد مصاعب البلاد ويضيق إلى الأقصى هامش حركة الحكومة..