صنفان من الناس في بلادنا مارسا تجربة الحكم: متحزبون مارسوا السياسة في تنظيماتهم ثم ارتقوا إلى دوائر صنع القرار وموظفون سامون تدرجوا في سلم المسؤوليات وخبروا السياسة كممارسة يومية من زاوية السلطة التنفيذية ..
بعد الثورة عرفنا صنفا ثالثا سميناه بالتكنوقراط وهي كفاءات من خارج دائرتي الأحزاب والإدارة دعيت في مناسبات مختلفة لتقديم إضافة محتملة..ولقد كان هذا الصنف هو الطاغي في حكومة سنة 2014 بفعل التوافق المسبق على طبيعتها في الحوار الوطني: حكومة كفاءات مستقلة ترأسها شخصية مستقلة ويكون كل أعضائها غير معنيين بالانتخابات القادمة (المقصود بها التشريعية والرئاسية في 2014) ..
ولكن كل التكنوقراط الذين شاركوا في مختلف الحكومات المتعاقبة بعد الثورة انجذبوا إلى تجربة الحكم وجعلوا منها مدخلا لحياة سياسية جديدة ..فالحكم يوفر ما لا توفره كل التجارب الأخرى مجتمعة: القدرة على تحويل الأفكار إلى سياسات والسياسات إلى واقع ملموس في حياة الناس ..هذه التجربة ولدت طموحات عند الكثيرين فقرروا الدخول الفعلي في مغامرة السياسة، بعضهم يقول لاسترجاع فردوس الحكم المفقود، وهو يقولون لأنهم يريدون أن يردوا الجميل للدولة التي ساهمت في تكوينهم وتعليمهم وان الأوضاع المزرية للبلاد تحتاج لحكم الكفاءات بعد أن فشل حكم السياسيين بشتى أصنافهم..
واليوم أصبح لدينا حزب جديد «البديل التونسي» أهم مؤسسيه هم التكنوقراط الذين كونوا حكومة المهدي جمعة وجلّ الذين التحقوا بهم هم كذلك ، في الأغلب الأعم، على هذه الشاكلة .. أي كفاءات تونسية لا ماضي سياسي يذكر لها..
وفي الحقيقة هنالك سابقة في تاريخنا الحالي : حزب آفاق تونس الذي تأسس مباشرة بعد الثورة التونسية من قبل كفاءات عليا جلّها لا ماضي سياسي لها ولكن الفرق هو أن هذه الكفاءات أسست حزبا ثم ساهمت به في الحكم (باستثناء تجربة ياسين إبراهيم في حكومتي الغنوشي وباجي قائد السبسي سنة 2011 ) بينما «البديل التونسي» جاء بعد ممارسة الحكم..
كيف سيكون الانتقال من تجربة الحكم إلى تجربة السياسة ومن موقع المعارضة كذلك؟ وهل ما كان مفيدا في حوكمة الدولة هو مفيد بالضرورة في حوكمة حزب سياسي؟
يخطىء من يقارن تجربة حزب المهدي جمعة بحزب الباجي قائد السبسي لان الفوارق كبيرة بين الاثنين رغم التشابه الشكلي في ظروف التكوين : رئيس حكومة يكون حزبا بمعية جزء من فريقه الوزاري بعد مغادرته الحكم ..
ففي تجربة نداء تونس كان جلّ المؤسسين من السياسيين وبعضهم لديه دربة كبيرة في إعداد الآلة الحزبية والانتخابية..ثم جاء نداء تونس ليستجيب لواقع الاستقطاب الإيديولوجي الحاد الذي عرفته البلاد مع حكم الترويكا..
الحزب الذي يرأسه المهدي جمعة «البديل التونسي» جاء في سياقات سياسية ونفسية مختلفة جدّا .. فجلّ قياداته لم تمارس السياسة إلا من موقع الحكم وشتان بين هذا وبين ممارسة السياسة من موقع الحزب المعارض ..ففي الحالة الأولى العلاقة تكون مع المؤسسات والإدارة والأحزاب تحت أنظار الرأي العام أما في الثانية فينبغي إقناع المواطن / الناخب انك أفضل من الآخرين وان تفتك الإقناع والاقتناع مع كل ناخب وفي كل مناسبة .. وينبغي إقناع كل فرد بأنّ الحزب الجديد لا يمثل رقما سياسيا إضافيا فقط بل إضافة نوعية وفي هذا لقد تنافس متنافسون كثر وكان الفشل نصيب جلّهم إذ تكرار تجربة تأسيس حزب قادر على الانتصار في الانتخابات عملية صعبة للغاية ولا تقتصر فقط على حسن الإعداد البرامجي والمادي بل لابدّ فيها من عنصر نفسي يؤسس لرابطة الثقة بين المواطن الناخب وبين عرض سياسي ما..
كثيرون ادعوا أنهم يريدون ممارسة السياسة بأشكال جديدة .. ولكن ما إن انغمسوا فيها حتى غلبتهم تقاليدها الراسخة في الزمن فمارسوها كغيرهم في الواقع وأضحت الجدّة مجرد تسويق لا غير..
من رئاسة الحكومة إلى رئاسة حزب من اجل الفوز برئاسة.. الجمهورية(؟) الطريق صعب وشاق وحظوظ الفشل فيه أقوى بكثير من النجاح ..فالحكم يعطي أولية لصاحبه ومقبولية سرعان ما تنزع منه إن هو دخل المعترك السياسي ..
والإشكال الجوهري لحزب «البديل التونسي» أن حجته الأساسية : لقد نجحنا سنة 2014 فصوتوا لنا لكي ننجح وتنجح تونس من جديد...وهذه الحجة مطعون فيها بداية من قبل الخصوم إذ يعتبرون أن حكومة المهدي جمعة حكومة فاشلة كغيرها من الحكومات الأخرى ونهاية لان تكرار هذه الحجة يرسّخ عند الناس أن جماعة «البديل التونسي» إنما يريدون العودة للسلطة لا غير..
المهم على كل حال هو أن نرى هذا الحزب الجديد يدلي بدلوه في معركة الأفكار والبرامج .. أما مستقبله فمفتاحه عند الناخبين لا غير..