قضية نقطة بيع «الخمور» بمدينة الجم عرّت ورقة التوت التي كانت تستعملها الحركة الإسلامية لحجب تناقضاتها الداخلية على المواطنين ولكي تستعيض ، ما أمكن ، صورة الحركة الأصولية المتشددة بالحزب الديمقراطي الحداثي الذي «تخصص» مؤخرا في السياسة وترك النشاط «الدعوي» لغيره ..
نقطة بيع خمر واحدة كشفت بأننا أمام إخراج سيئ الحبكة وان العمق العقائدي للحركة الإسلامية مازال متمسكا بأهداب حلم البدايات .. حلم، أو كابوس، الدولة الإسلامية التي تجعل من تطبيق الشريعة عمودها الفقري ..
القول بان حركة النهضة بقيت دون تطور يذكر منذ سبعينات القرن الماضي عندما كانت إخوانية قطبية سلفية متشددة هو قول ظالم وخاطئ وهو حكم «ديني» بمعنى من المعاني أي حكم على الأشياء باعتبارها جواهر ثابتة أزلية لا يطالها الزمان والمكان بشيء ولكن التكرار الساذج بان الحركة الإسلامية أضحت حركة ديمقراطية عادية لمجرد أن قياداتها تدّعي ذلك هو حكم ينم على جهل بطبيعة التطور داخل الحركات العقائدية..
تأملوا جيّدا هذه الفقرة
«ونحن نترحم بهذه المناسبة على كل شهداء الحرية ونحيي جرحى الثورة المباركة وكل المناضلين طيلة عقود الدكتاتورية وكل الذين قيضهم الله سبحانه ليعبّدوا لشعبنا طريق الكرامة والحرية عبر مسيرة شاقة في مقاومة النخّبة الحاكمة في دولة الاستقلال التي سلّطت على التونسيين علمانية متطرّفة حاربت الإسلام واتخذت التديّن هزءا، وفرضت على الشعب نظاما دكتاتوريا خنق الحريّات وجرّ البلاد إلى المسخ الثقافي ومراكمة الفشل التنموي، فكان لوجود الحركة الإسلامية دواعيه وللتأسيس ثوابته وللإعلان مبادئه»
نحن لا نتحدث عن نصّ يعود إلى سبعينات أو ثمانينات القرن الماضي .. نحن نتحدث عن النص الرسمي لإحياء الذكرى 31 لانبعاث حركة الاتجاه الإسلامي (النهضة حاليا ) وقد أمضاه رئيسها راشد الغنوشي في 6 جوان سنة 2012.. نعم شهر جوان 2012..
نقول هذا لا لنسجل هدفا ما في مرمى تبدو شباكه خالية ولكن لنضع الأمور في نصابها الحقيقي..
حركة النهضة لم تعد تلك الحركة الإخوانية القطبية التي لا يفصلها عن السلفية الجهادية سوى بعض التفاصيل ولكنها لم ترد ، إلى حد الآن ، أن تصفي كل موروثها القديم وفق غربال الديمقراطية الدقيق فنرى في إطاراتها الوسطى والعليا خليطا فكريا وترسبات غير متناسقة من الموروث السلفي الإخواني القطبي انضاف إليه انبهار بقيم الثورة الإيرانية فمقولات الإسلام الوسطي للزعيم الروحي للحركات الإخوانية يوسف القرضاوي على سعي للانغراس في تيار الإصلاح الديني التونسي والمشرقي إلى جرأة في ادعاء الوصل بفكر الطاهر الحداد وكل ذلك على أنغام النموذج التركي الاردوغاني .. ممّا يعطينا عقلا اسلامويا ذرائعيا ولاشك،يضحي بالفكري من اجل السياسي ولكنه عقل لا انسجام فيه بل هو في حقيقة الأمر عقول ومذاهب وخيارات بعضها مهيمن على سطح الأحداث وبعضها يخرج من باطن الأرض تماما كما تخرج الأرض ما في باطنها عند انفجار كل بركان..
كان بإمكان الحركة الإسلامية أن تقطع مع أوهام البدايات وان تنخرط بصفة جدية في اختيار ديمقراطي لا لبس فيه ولكن هذا الاحتمال قد تمّ استبعاده منذ البداية واستعيض عنه بمنحى توفيقي يغلب عليه التلفيق الفكري وكل ذلك حفاظا على «وحدة الحركة» وان يدار «الاختلاف» داخلها لا خارجها أي أن تجد كل هذه المكونات المتناقضة موطن قدم لها داخل الحركة الإسلامية ولقد نظر زعيم النهضة لهذا التمشي في رسالة كتبها وهو في السجن سنة 1983 تحت عنوان «حق الاختلاف وواجب وحدة الصف» وقد نشرت بإمضاء مستعار «معاذ الصابر».. في وقت تقاذفت فيها الحركة أمواج سودانية (حسن الترابي زعيم إخوان السودان) وإيرانية (الخميني) وكانت لابد من تاليفة فكرية تقحم هذا الوافد الجديد دون أن تقطع مع موروثها القديم..
ومن الطريف أن نلاحظ انزياح المعاني وتناوب المفاهيم المعبرة عن العمق الفكري للحركة الإسلامية إذ انتقلنا من مفاهيم الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة في السبعينات إلى مفهوم الهوية العربية الإسلامية منذ الثمانينات..ثم تم اقحام مصطلح الديمقراطية سنة 1981 ولكن ليست هي الديمقراطية التي تواطأت عليها البشرية بل الديمقراطية كتقنية للوصول إلى السلطة ولتطبيق البرنامج الإسلامي .. ثم في نهاية السنوات الألفين إلى الديمقراطية كإقرار بالحقوق والحريات الجماعية وبنوع من التمييز بين الديني والسياسي ولكن دون الإقرار - إلى يوم الناس هذا – بالفصل بين هذين الجانبين..
هذا التوفيق بين متناقضات شتّى هو الذي يميّز هوية الحركة الإسلامية إلى اليوم..
صحيح لقد ابعدت الحركة عن صفوفها الأمامية تلك الزعامات التي كانت تطالب بتطبيق الشريعة وتهدد الشعب التونسي بتطبيق حدّ الحرابة (قطع الأيدي والأرجل من خلاف) ولكنّها لا تريد أن تَقْنَعَ بان تكون حركة «علمانية».. كغيرها من الحركات السياسية بل حركة «الإسلام الديمقراطي» كبديل عن «الإسلام السياسي» دون أن تقول لنا ما هي الحدود الفاصلة بين الإسلام والديمقراطية وهل أنها تقحم في الديمقراطية الحقوق الفردية أم لا ؟ وهل ستميّز بين الحقوق الفردية المنسجمة إسلاميا والحقوق الفردية المغايرة للأخلاق أو للهوية ؟
وهنا يأخذ حماس شباب وإطارات ونواب وقيادات حركة النهضة لإغلاق نقطة بيع «الخمور» بالجم كل أبعاده ليقول لنا من جديد بأننا أمام حركة لديها ازدواج في الخطاب وفي المعايير وفي المراجع وفي السلوك أيضا..
لم نر شباب الحركة وقياداتها متحمسين للتنديد بالتجارة الموازية وبالفساد المستشري بل بقيت الحساسية الدينية المأدلجة هي الطاغية .. فنقطة «بيع الخمور» تثير فيهم ما لا يثيره كل ظلم الدنيا مجتمعا..
إنها حروب الهوية بعناوين جديدة تلك التي تظهر لنا أنفها بين الفينة والأخرى لتقول لنا بان التوافقات في بلادنا ملغومة وان الدستور الجديد لم ينه بعد كل الصراعات القديمة..