تونس تحتفي بالكتاب: كيف ننتقل من المعرض إلى الصناعة ؟

افتتحت يوم أمس الدورة الثالثة والثلاثون لمعرض تونس الدولي للكتاب ..


ورغم كل ما يقال عن عزوف التونسي عن المطالعة إلا أن معرض الكتاب مؤسسة ثقافية ناجحة تجاريا وجماهيريا منذ انبعاثها بل حتى في صيغته القديمة عندما كان في سبعينات القرن الماضي تنظمه المأسوف عليها الشركة التونسية للنشر .. فالإقبال الجماهيري دائما في الموعد وعندما تحول المعرض في مرحلة أولى إلى قصر المعارض بالعاصمة وخاصة عندما أصبح بقصر المعارض بالكرم حطّم كل الأرقام القياسية في عدد الزوار وعدد الناشرين والكتب المعروضة والاقتناءات وأصبحنا نرى العائلة التونسية تأتي مكتملة الأفراد إلى المعرض وتنظم الرحلات الجماعية والخاصة من كل أرجاء الجمهورية لقضاء الساعات الطوال في أروقة المعرض..

ويبقى السؤال محيّرا : كيف نفسر هذا الإقبال الضخم وهذا الاستعداد الكبير خلال الأيام العشرة للمعرض ثم حالة الانحسار الكبيرة جدّا للكتاب وعشاقه وقرائه على امتداد بقية أيام السنة ؟..

لقد اكتفينا طيلة عقود كاملة بالقول بأن التونسي لا يقرأ وكأننا أمام قدر لا يفهم وان هذه هي «طبيعة» التونسي : ثرثار يحب الكلام ولا يعطي لنفسه الوقت الكافي لمطالعة رواية وعمل فكري معمق .. قبل الثورة كان يفسر هذا العزوف على امتداد السنة بغياب الحريات وبعدها بقليل بغلبة الكتب «الصفراء» (المقصود بها الكتب الدينية التراثية ) ولكن المتأمل في العرض الفعلي لسوق الكتاب في تونس يدرك بيسر زيف هذه التعّلات ..ولكن ما لا مناص من الإقرار به هو أن لهفة زوار معرض الكتاب هي نوع من الإقرار الجماعي بالعلاقة الموسمية بهذه المادة الثقافية..

تغيير هذه «التقاليد» ممكن بل وضروري لأن قيمة مجتمع ما تقاس أساسا بقيمة مكانة الثقافة ومنتوجاتها عند أفراده ..ولكن وضع الكتاب وسط مركز اهتمام العائلة والأفراد ليس عملا هينا وهو يتطلب سياسة عمومية إرادية على المديين المتوسط والبعيد..

والمقصود هنا هو تغيير جذري لكل الفضاء المحيط بالكتاب وتحويل هذا الإنتاج الإبداعي الذي بقي محصورا فيما يشبه العمل الحرفي إلى صناعة ضخمة تقتحم الأسواق وتجعل من الكتاب صناعة ثقافية تشغل عشرات الآلاف من التونسيين في مختلف مهن الكتاب (طباعة ..تصميم ..تسفير..ترجمة..نشر..توزيع..)..

لدينا اليوم في تونس العنصر الأساسي الذي يسمح لنا بتحقيق هذا الحلم : الحرية .. إذ لا يمكن تصور صناعات ثقافية مزدهرة دون مناخ من الحرية الواسعة..

قلنا أكثر من مرة في هذا العمود انه بإمكان تونس في ظرف سنوات قليلة أن تصبح عاصمة إقليمية للكتاب والسينما والموسيقى .. فنحن لا نتحدث هنا بالأساس عن الإنتاج الإبداعي التونسي الصرف بل عن الكتاب والسينما والموسيقى بإطلاق وان نعمل على اكتساح الأسواق العربية والمتوسطية والإفريقية وان نطور بالفعل سياسات عمومية إرادية سياسات ثقافية تجعل من هذه المجالات الثلاثة على الأقل صناعات ثقافية أي أن تصبح تونس عاصمة لصنع الكتاب العربي والإفريقي والمتوسطي وذلك يكون في متناولنا عندما نضمن نفس الجودة التي توفرها الدول الأوروبية والعربية ولكن بكلفة اقل ..

وهنا نحتاج إلى استثمار عمومي وخاص وأجنبي كثيف .. فجيّد أن نضاعف خمس مرات ميزانية المعرض الدولي للكتاب ولكن خمسمائة ألف دينار على أهميتها لا تغير جوهر المعطيات نحن بحاجة إلى ضخ مليارات الدنانير على امتداد السنوات .. نحن بحاجة إلى حلم بداية والى إمكانيات ضخمة ثانية (وهي موجودة) والى عمل دؤوب لكي نحول هذه الحرف الثقافية إلى صناعات عالمية وان نضع كل سياسات الدعم الأخرى حتى يستفيد كل مبدعي تونس من كتاب وسينمائيين وموسيقيين بهذا التيار الجارف ..نحن بحاجة أن ننتقل من طبع مئات النسخ فقط للكتاب الواحد وبأسعار تتراوح أغلبها من 10 دنانير إلى 25 دينارا إلى طبع عدة آلاف من النسخ لكل كتاب تونسي وبأسعار تتراوح مبدئيا من 5 إلى 10 دنانير فقط وأن يوجد الكتاب في كل الفضاءات التجارية الكبرى وان نشجع عليه كل عائلة وأن نروّج له في كل قرية..

لسنا أمام وهم مستحيل التحقيق .. ولكن انجاز كل هذا يتطلب ولا شك رؤية ثقافية لتونس وإرادة صارمة على امتداد عشرات السنين لكي نحول أول ثورة في العالم العربي إلى قاطرة إقليمية للثقافة وللصناعات الثقافية..

جميل أن نحتفي بالكتاب خلال عشرة أيام.. ولكن الأروع أن نحتفي به كل يوم..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115