ما الذي يشدّ الفايسبوكيين وغيرهم إلى تصريحات الأزهر العكرمي وشفيق جراية فيتحوّل الحديث إلى «مقامة الكلاب» وفرصة للتنافس بين الناس :من يبتكر نكتة أو ملحة توظف استعارة الكلاب؟
ما الذي يجعل المبحرين على شبكات التواصل الاجتماعي لا يكترثون بإعلان حول صدور آخر مقال لك ينشر في أهمّ الدوريات العلمية أو كتاب يطرح قضية مثيرة للجدل وفي المقابل نراهم يتهافتون للتعبير عن إعجابهم بصورتك المنشورة؟ أيّهما أهمّ الإضافة المعرفية أم الصورة؟
ما الذي يدفع أغلبهم إلى تهميش برامج ثقافية كـ«بيت الخيال» أو «جمهرية الثقافة» تسعى إلى ضخّ الروح في المشهد الثقافي فلا يكترثون بنقد المضامين أو التفاعل مع الآراء والمواقف أو اقتراح بعض المواضيع...؟
ما الذي يدفع أغلبهم إلى تجاهل إصدار تونسي نوعي للصحفي «هادي يحمد» الذي قدّم إضافة إلى المكتبة العربية في ما يتعلّق بدراسات الإرهاب: «كنت في الرقّة هاربا من الدولة الإسلامية»؟
ما الذي يجعل تدوينات بعض الباحثين الواعدين تمر دون نقاش أو نقد والحال أنّها تعرض أفكارا طريفة وتصورات عميقة وتلتزم بقواعد التحليل الرصين والعلمي؟
ما الذي يجعل الأعمال الفنية كالمسرحيات والأفلام والتظاهرات الثقافية المختلفة لا تحرّك سواكن الناس؟
أسئلة كثيرة تدفعنا إلى التأمّل في ما آل إليه وضع التونسيين وخاصة حالة الرياء السائدة في صفوف المشاهدين والمستمعين إذ يتبرّم البعض من المستوى «الهابط» لبرنامج «لمن يجرؤ فقط» ومع ذلك يسرد لك تفاصيل النقاش الذي دار، ويغضب البعض الآخر من النقاشات «التافهة» ومستوى برامج التسلية التي تعرضها قناة الحوار التونسي أو قناة التاسعة ومع ذلك تراهم من المتابعين الأوفياء لهذه البرامج... فلم هذا الانفصام؟ وما أسباب النكوص؟
يقودنا طرح هذه الأسئلة إلى الاعتراف بوجود مخطط عامّ «للتطبيع» مع الرداءة والبلاهة أو «الاستحمار» كما يقول الإيراني «سروج» وقد بات هذا المخطط جليّا إذ لاحظنا تغيّبا متعمّدا للشخصيات الفاعلة القادرة على طرح الأسئلة العميقة فإذا بها تعود من جديد إلى «الكهف» لتصنف ضمن قائمة Black List ذلك أنّ أصحاب الأموال والأحزاب والقنوات لا يريدون «التشويش» على برامجهم من «أصحاب العقول» فالبلاد ليست بحاجة إلى الفلاسفة كما أكدّ «الشاهد» على ذلك في خطابه الأخير.
وفي مقابل ذلك ظهرت البرامج التي تنسف الذائقة الفنية وتعبث بالقيم التي ترسيها ثقافة المواطنة وتسير في اتجاه تدمير ما بني طيلة عقود من الزمن فتفسح مجالا لشخصيات «كارتونية» فتحولها إلى نجوم .
وهنا حقّ التساؤل: من المستفيد من وراء تصنيع نجوم الرداءة وتهميش الديناميكية التي نلمحها في مستويات عديدة لعل أهمها المبادرات التي ينهض بها المجتمع المدني؟ ولماذا اكتفى أغلبهم بالتذمر والبكاء على حال البلاد والتحسر على الماضي حيث كان فرج شوشان يصول ويجول ونجيب الخطاب والبشير رجب ولحبيب جغام وغيرهم كثيرون يبدعون... وفي المقابل عجز المتذمرون عن ابتكار البدائل؟
لن نردد «لك الله» يا تونس، ولن ننصح باستعمال remote control للتصدي لمحاولات تزييف الوعي و«تنويم» المواطنين من جديد بعد أن استفاقوا، ولن نحوّل وجهة الباحثين عن المتعة فهم قد أدركوا من زمان أن الإدمان على إذاعة «مسك» خير علاج... سنكتفي بتحفيزكم على الإجابة عن سؤال مركزي: ماذا قدمتم لشباب غادر دون رجعة... لشباب آثر الموت في البحر على العيش في بلد «أنجز ثورة» ... لشباب اختار الانتحار بعد أن ضاقت أمامه السبل...لشباب وجد ضالته في الإدمان... لشباب ارتمى في أحضان «داعش» ورأى فيها المنقذ من الضلال... لشباب حلف بألف يمين بأنّ النفير إلى أرض الشام أو ليبيا أفضل ألف مرّة من العيش وسط الذئاب والكلاب المسعورة...لشباب يردد مع كل بزوغ شمس «إن الغريب من هو في غربته غريب»؟
إنّ مسارا انتقاليا غير مدعوم ببناء معرفي وبرامج تنويرية وإعلام مسؤول وفعل ثقافي في الواقع يهدف إلى تغيير العقليات مآله الفشل الذريع.