كل هذا جعل من يوم 20 مارس يوم الاجتماعات الماراطونية للأمين العام لاتحاد الشغل مع كل من الكاتب العام للجامعة العامة للصحة والنقابة العامة للتعليم الثانوي وكذلك النقابة العامة للتعليم الأساسي للتأكد من «حياديتها» في هذا الصراع الذي يشق اليوم المنظمة الشغيلة إذ لأول مرة في تاريخ المركزية يصل «تمرد» قطاعات أساسية فيها إلى حدّ التلويح بالاستقالة الجماعية كما صرح بذلك عثمان الجلولي الكاتب العام للجامعة العامة للصحة لزملائنا في جريدة الشروق ليوم السبت الماضي أو الإصرار على المضي في تنفيذ إضراب عام مفتوح في قطاع التعليم الثانوي وأنّ العنصر الوحيد للعدول عنه ليس هو بيان المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل الصادر في يوم 18 مارس بل تعهدا واضحا من رئاسة الحكومة بإيجاد «بدائل» عن وزير التربية الناجي جلول..
أيّا كان مآل هذه الأزمة فان الواضح أنّنا دخلنا مرحلة جديدة في علاقة المركزية بجامعاتها ونقاباتها العامة وأنّ «شعرة معاوية» التي كانت تربط الاثنين خاصة بعد الثورة قد انقطعت رغم سعي كل طرف إلى استعمال ألفاظ مدروسة – باستثناء تصريح الجلولي – حتى لا تكون القطيعة هي المآل النهائي والمحتوم لهذه الأزمة غير المسبوقة التي تعيشها منظمة حشاد ..
لسنا ندري هل أن هنالك تنسيقا بين القطاعين «المتمردين» على المكتب التنفيذي أم لا وان كان تزامن الإصرار على تعليق الدروس رغما عن أنف القيادة وكذلك التهديد في نفس اليوم باستقالة جماعية لقطاع الصحة يدفعان إلى الاعتقاد بأننا أمام تصعيد مشترك لا كبير مكان فيه للصدفة..وهذا يفسر كذلك حرص الأمين العام للاتحاد يوم أمس على التأكد من أن عدوى «التمرد» لن تنتقل إلى التعليم الأساسي وإلا لكان الاتحاد أمام أزمة هيكلية خانقة لأن القطاعات الثلاثة تمثل مجتمعة ثلث الوظيفة العمومية وقوة ضاربة يصعب ترويضها في وقت قصير ..
اجتماع المكتب التنفيذي الموسع للمنظمة الشغيلة سينظر اليوم في كيف معالجة هذه الأزمة ولكن أيّا كانت المعالجات الظرفية – وبعضها قد وجد مع الجامعة العامة للصحة منذ مساء أمس – فإننا أمام معطى جديد سيترك أثارا يصعب محوها على الأقل في المستوى المنظور..
لا شك أن النقابيين يعلمون جيّدا أن التهديد بمغادرة جماعية للمنظمة سيضعف القطاع المعني به أكثر بكثير من إضعافه للمنظمة ككل ، إذ سيفقد القطاع المغادر للمركزية كل الإمكانات المادية والبشرية التي يتمتع بها إلى حدّ الآن من تفرغ نقابي وميزانية متأتية من الاقتطاع الآلي لـ%1 من رواتب الموظفين..
فالقطاع المنشق سيجد نفسه بين عشية وضحاها دون هذه الحاضنة المادية والمعنوية وفي مغامرة محفوفة بالمخاطر وأولها وأهمها عدم التحاق قواعد القطاع بالحركة الانشقاقية..
فتهديد عثمان الجلولي ، من الناحية العملية ، غير جدي ولكنه مؤشر على التوتر الذي أضحى يميّز علاقة المركزية النقابية بالجامعات والنقابات العامة الأكثر احتجاجية ..فليس من الصدفة أن نجد في مقدمة «المتمردين» النقابة العامة للتعليم الثانوي والجامعة العامة للصحة والتي تمكنت في الماضي القريب ، من الإطاحة بوزير الصحة سعيد العايدي وقد ساند آنذاك لسعد اليعقوبي هذا الاحتجاج ووصل به الأمر إلى وصف الوزير بالمقيم العام وبأنه عليه أن يعود إلى «بلاده» قبل أن يعتذر عن ذلك بعدما استنكر الجميع هذه التصريحات التخوينية..
والسؤال المحوري اليوم هو أية علاقة في المستقبل بين المركزية النقابية وبين القطاعات الأساسية في الوظيفة العمومية كالتعليم الأساسي والثانوي والصحة والنقل والمالية ؟ هل بإمكان القيادة استعادة المبادرة وفرض مركزية القرار ؟ أم أنها ستفرّط فيه حفاظ على الوحدة الشكلية لمنظمة حشاد ؟
لنراهن على أنّ المنظمة لن تقدر على حسم واضح ونهائي لهذه المسالة وأنها ستسعى لاتباع سياسة مزدوجة من اللين والصرامة : اللين في تفهم مطالب القطاعات حتى وان كانت مشطة والصرامة مع كل تهديد جدّي لوحدة المنظمة ، ولكن كيف التعامل مع الموقف المدروس في ألفاظه للنقابة العامة للتعليم الثانوي الذي لا يتحدى المركزية وان عبّرت قياداتها عن دهشتها من بيان المكتب التنفيذي .. والتي لا تستعمل مطلقا لفظ الإضراب بل فقط «تعليق الدروس» والذي يعني عمليا إضراب عاما مفتوحا ولكن بألفاظ «بديلة»؟
لاشك أن المفاوضات «تحت الطاولة» هي الطاغية اليوم فنور الدين الطبوبي التقى يوم أمس يوسف الشاهد عساه يقنعه بإيجاد مخرج «مشرف» للجميع.. ولكن عندما نعلم أن النقابة العامة للثانوي لا تقبل بغير رحيل وزير التربية فهذا سيجعل من هامش مناورة الحكومة شبه معدوم فإما الرضوخ للمطلب القطاعي أو الدخول في صراع حادّ لا احد يعلم مآلاته..
السؤال هو هل من «مقايضة» ممكنة بين رئيس الحكومة والأمين العام لاتحاد الشغل من صنف التخلي المؤجل عن ناجي جلول مقابل «تنازل» الاتحاد عن ملفات حساسة كالترفيع في سن التقاعد والتفويت في بعض المؤسسات العمومية وإصلاح الوظيفة العمومية ؟
المنطق يحكم باستحالة هذه المقايضة لأن الطرفين سيكونان الخاسرين فيها ..ولكن اقتباسا للمقولة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي بسكال للسياسة، في بلادنا ، منطق يجهله المنطق ذاته...