حين نحوّل عدسة النظر باتجاه تجليات العنف في الحياة اليومية وفي كلّ الفضاءات نجد أنّ الأرقام مفزعة وهي مرشحة للارتفاع ومعنى هذا أنّنا نعيش أزمة كبرى... وحين نصغي إلى شهادات المعنفات نكتشف التحولات الكبرى التي يمرّ بها مجتمعنا على مستوى منظومة القيم وأنماط السلوك الفردي والجماعي، ونسق التمثلات، وأشكال التفاعل المتعددة مع العنف ... يكفي أن نشير إلى أنّ عددا هاما من النساء اللواتي بتن فاقدات للسند بسبب العنف الزوجي الممارس عليهن وفي مقدمته «الاغتصاب الجنسي» وذلك حسب مرصد العنف... فما معنى أن تُربط الزوجة بوثاق شديد إلى فراش الزوجية و«يمارس الزوج حقّه الشرعي في المتعة؟ وما معنى أن يطلب الزوج المدمن على أفلام البورنو من زوجته أن تلبي «فانتازماته» fantasmes وتؤدي دور البطلة في الفيلم؟وما معنى أن يعاشر الأب بناته فيُعدّد النساء «مثنى وثلاث ورباع»؟ وما معنى أن يشغّل الأب بناته في البيوت ويتقاضى الأجرة ويتصرّف في حياواتهن فيمنع هذه من الزواج ويضرب من تتمرّد على قوانينه؟ ... أمّا العاملات في المصانع والحقول فحدّث ولا حرج عن مأساتهن وكيف يعاملن معاملة تجردهن من الإنسانية... لا تكمن الإجابة عن هذه الأسئلة الحرجة في «التصحر الديني» و«الأمية الدينية» و«الانحطاط الأخلاقي الناجم عن الفن «الهابط» وإعلام «العار»... الإجابة أعمق بكثير لأنّها مرتبطة ببنية مركبة وتستدعي تعاضد الجهود.
عندما نفارق حالة العمى الإدراكي ونحتك بالواقع المرير الذي لم يخضع «لعمليات تجميلية» نتبيّن مساحات التقصير على المستوى التعليمي، والثقافي، والتشريعي والتعاطي الإعلامي والبحث الأكاديمي، وقنوات التوعية وغيرها.فليس المشروع المقدم إلى مجلس الشعب بشأن حماية التونسيات من كلّ أشكال العنف إذن ‹ترفا› فكريا تمارسه الجمعيات «النسوية» أو المنافحات عن المساواة الجندرية كما أنّه لا يعدّ مطلبا مبالغا فيه ولا تضخيما لبعض «الحالات المعزولة» خدمة للاعتبارات الأيديولوجية أو السياسية. إنّ التسريع بالموافقة على هذا المشروع مسألة أخلاقية فإمّا أن نعترف بأنّ الداء استفحل وأنّه آن الأوان لمعالجته معالجة جدية أو لنستمر في سياسة النعامة والتصرف وفق المصالح الأيديولوجية والسياسية.
ولأنّ العنف ظاهرة مركبة تتجاوز الحدود الكلاسيكية والمعايير الاجتماعية المتعارف عليها لا بأس بأن نُذكّر بأنّ الانتصار لقضية «العنف الممارس على أساس الجندر» يتطلب الإقرار بوجود فئات أخرى تعدّ من ضحايا العنف. فمن النساء من تتفنن في ممارسة العنف على غيرها من النسوة، ومن الموظفين من تتحرّش به ربّة العمل، ومن الرجال من يمارس عليه التسلّط من أقرب الناس كالأم أو الأخت أو الزوج، ومن المتهمين من تتسلط عليه «ممثلة الأمن»... ومن المثليين من يُعتدى عليهم في الفضاء العام وبحضور رجل الأمن، ومن
البهائيين والمتحولين من دين إلى آخر أو من مذهب إلى آخر، ومن «السود».. من يعانون من كلّ أشكال التمييز والعنف المبني على أساس الاختيار الجنسي أو الدين أو العرق أو...
إنّ المجتمع المأزوم لا يمكن أن ينجح في بناء مسار الانتقال الديمقراطي...والفرد المعطوب لا يمكن أن يعوّل عليه في رسم ملامح المستقبل فكفى مماطلة ومراوغة وبحثا عن الحيل والمخارج ولنحدق بملء العين في الواقع المرير ولنعترف بأنّ العنف صار سيّد الميدان. فهل من قرارات ناجعة وجريئة؟