أصدر البنك المركزي التونسي يوم أول أمس تقريره حول «التطورات الاقتصادية والنقدية والأفاق على المدى المتوسط» وكما كان متوقعا أكّد البنك المركزي من جديد توقعه بنمو الناتج المحلي الإجمالي بـ %1.3 بالنسبة لسنة 2016( سيصدر المعهد الوطني للإحصاء الرقم الرسمي خلال الأيام القادمة) وعدّل بصفة طفيفة توقعاته للسنة الحالية (%2.3بدلا عن%2.2) وحافظ على توقعه السابق للسنة القادمة في مستوى%2.8..
يعني وفي أحسن الأحوال لن يخرج الاقتصاد الوطني من دائرة النمو الهش قبل سنة 2019 وهذا في أحسن الأحوال .. أي أن النمو الهش في بلادنا أضحى معطى هيكليا ولم يعد مسألة ظرفية بالإمكان تجاوزها على المدى المتوسط.
نعلم جميعا أن معدل النمو في تونس خلال السنوات الألفين كان في حدود %4.5(أي حوالي مرتين ونصف معدل السنوات الست لما بعد الثورة ) ورغم ذلك لم تتمكن هذه النسبة من استيعاب طلبات الشغل الإضافية وخاصة لدى خريجي التعليم العالي ولا تمكنت من تنمية متوازنة للبلاد ..وكان الخبراء آنذاك يقولون ومنذ أواسط العقد الماضي بان المنوال التنموي التونسي قد بلغ حدوده وان الانتقال إلى مستويات نمو ارفع يتطلب إدخال إصلاحات جوهرية على المنظومتين التربوية والتكوينية من جهة والصناعية والخدماتية من جهة أخرى..
والهدف كان آنذاك بلوغ معدل يساوي أو يتجاوز %6 لخلق الحركية القادرة على امتصاص البطالة وتحويل النمو إلى تنمية بشرية فعلية..
ومن هنا جاءت فكرة أن هنالك سقف نموّ افتراضي لهذا المنوال التنموي لا يمكن تجاوزه (Potentiel de croissance) وقد حدد هذا الإمكان للنمو في دراسات جدّية حصلت مباشرة بعد الثورة بحوالي %4.7 أي لو أردنا فعلا تحقيق نسب نمو بـ %6 أو ما
فوقها فعلينا أن نغير معطيات أساسية في «ممكن النمو» هذا..
ولعلّ هذا «التفاؤل» كان وراء البرنامج الاقتصادي والاجتماعي لنداء تونس والذي انعكس بدوره على فرضيات مخطط التنمية (2016 - 2020) والذي كان يفترض بداية قدرة بلادنا على تحقيق معدل %5 نموّ خلال هذه الخماسية وهو ما يفترض تغييرا هاما في «ممكن النمو « خلال السنتين الاوليين في هذا المخطط..
ما حصل هو العكس تماما.. لان أهم ما نجده في تقرير البنك المركزي هو حصره لممكن النمو التونسي خارج قطاع الفلاحة والصيد البحري بـ%2.4 لسنوات 2015 و2016 و2017 وبـ%2.5لسنة 2018..أي أن النمو الضعيف لم يعد عرضيا بل أضحى هو جوهر «منوالنا» التنموي الحالي الفعلي..
لا يقول لنا تقرير البنك المركزي أين تكمن مواطن الخلل الفعلية.. ولكن نعلم جميعا أن محركات النمو في تونس تتمحور حول الاستثمار والتصدير وما يسمى بإنتاجية العمل وإنتاجية العوامل والمقصود بإنتاجية العمل هو تحسين القيمة المضافة مع الحفاظ على نفس كمّ العمل وهذا العنصر كان هاما في تشكيلة عناصر النمو في تونس في السنوات الألفين وهو الذي تراجع كثيرا في سنوات ما بعد الثورة بل يعتبر بعضهم بأنه أضحى سلبيا في هيكلة النمو التونسي..
وهذا يعني أن الاستثمار لن يكفي لوحده لخلق النموّ المطلوب.. فدون عودة إنتاجية العمل وإنتاجية رأس المال والتصدير كعوامل متضامنة ومتضافرة لا يمكن أن نسترجع نسق النمو في العشرية الأولى لهذا القرن..
ويخطئ من يعتقد بان إصلاح الإطار التشريعي كاف لوحده لتسريع نسق النمو ..
فهذه الإصلاحات ضرورية ولكن النموّ يخلق داخل المؤسسة الاقتصادية وهو محتاج إلى علاقات شغلية ممتازة علاوة على تكوين الكفاءات والمهارات القادرة على رفع القيم داخل المؤسسة ثم تحتاج المؤسسة بالخصوص إلى أسواق خارجية لتنمو وتبلغ المستوى الذي يخوّل لها الارتفاع الجدّي في سلم القيم وهذا يستدعي دولة تلعب دورا استراتيجيا مهما لمرافقة المؤسسات واستباق خطواتها إلى الأسواق العالمية والارتقاء السريع والفعلي بالمنظومة التربوية والتكوينية وجعل المناطق المهمشة روافع جديدة لخلق الثروة لا عبئا على الدولة وعلى ميزانيتها الاجتماعية..
وفي الاقتصاد كما في سائر مجالات الحياة –النجاح يخلق النجاح والفشل يستتبعه الفشل..
المعضلة في تونس أننا لم نتمكن بعد من هذه الديناميكية الايجابية وحتى إن خلقنا نجاحا ترانا نعمل جاهدين على طمسه وتقزيمه..
النموّ الهشّ هو ثقافة وقيم قبل أن يكون آليات تقنية وحسابات عمومية.