تراكم الديون إلى حدّ العجز عن مواصلة المشوار..
ما لا يعلمه جلّ التونسيين هو وجود بعض الحالمين/ المجانين (بكل ما في الكلمة من قوة وجمال وإبداع) في بلادنا يستثمرون في ...الثقافة ..
هؤلاء الحالمون/ المجانين يضعون أحيانا ذخيرة العمر ليبعثوا فضاءات ثقافية خاصة أو قاعات لمعارض في الرسم والنحت أو قاعات سينما أو مكتبات أو دور نشر جديّة أو شركات إنتاج سينمائي أو مسرحي .. في حين يستثمر «العقلاء» في الأكل السريع والمساحات التجارية وشركات التوريد والتصدير .. ولكي تعيش هذه المشاريع الكفاف ينبغي أن يتحول الفنان إلى مندوب مبيعات يستجدي المانحين يمينا ويسارا وعادة ما يتم ذلك على حساب إبداعه وفنّه وجهده وأعصابه..
هؤلاء الحالمون/ المجانين هم مفخرة بلادنا سخروا كل طاقاتهم لخدمة أرقى وأجمل وأبدع ما فينا : الفن والإبداع والفكر والجمال .. هؤلاء الحالمون يصطدمون بواقع بارد لا يعبأ كثيرا بالفن والفكر والثقافة والمشتغلين بها .. في حين أن هذه الفضاءات والمبادرات لا تدافع عن الفنّ والثقافة فقط بل تهب لشبابنا أطرا للإبداع وللرقي الذوقي والنفسي والروحي .. ولكن لا نتذكر هذه المعاناة اليومية إلا عندما نصطدم بخبر اضطرار فضاء ثقافي إلى غلق أبوابه والحال أن احتياجاته لا تتجاوز ، في الأغلب الأعمّ بعض عشرات ألاف الدنانير سنويا..
نحن نحيي ردة الفعل السريعة لوزير الشؤون الثقافية محمد زين العابدين الذي أكد منذ صباح يوم أمس بان الوزارة لا ولن تسمح بحصول مثل هذه الفاجعة ..
ولكن إلى متى تبقى الثقافة والفنّ والإبداع خاضعة لسياسة اللحظة ؟ ! إلى متى ترفض بلادنا تحويل ثورتها السياسية إلى ثورة في الثقافة والفنون تنتج عنها صناعة ثقافية؟! .. فالمطلوب ليس أن ننقذ فضاء ثقافيا بعينه - على أهمية هذه العملية - المطلوب هو تحويل الحرية إلى صناعة وتحويل تونس إلى قطب إقليمي عربي ومتوسطي وإفريقي لإنتاج كل أصناف الصناعات الثقافية..
لا يمكننا أن نفهم كيف لم نحوّل الثورة التونسية إلى ثورة للثقافة والفن والإبداع على مستوى «صناعي» بدلا من حصرها في مبادرات فردية معزولة في الأغلب..
نقولها ونكررها لحدّ الملل: انه بإمكان تونس أن تصبح في ظرف سنوات قليلة قبلة الإنتاج الثقافي والفني والأدبي والفكري في كامل المنطقة العربية وفي إفريقيا والبحر المتوسط وان هذه الثورة ستوفر عشرات الآلاف من مواطن الشغل وستجعل من إشعاع الثورة التونسية إقليميا ودوليا واقعا ملموسا..
ما يؤسفنا هو غياب كل مشروع ثقافي طموح في المخطط الخماسي وفي سياسة الدولة ..والحال أنّنا يمكن أن نحول تونس في سنوات قليلة إلى مركز إقليمي للسينما والموسيقى والكتاب وكل ما يرتبط بالمهن والحرف والصناعات الثقافية .. يكفي أن نريد ذلك فقط ليس إلا وتمويل هذا الطموح جوهره هو الحرية التي لا مثيل لها في العالم العربي والطاقات الثقافية الهائلة التي تزخر بها بلادنا ولا أدل على ذلك من وجود هؤلاء الحالمين/ المجانين بيننا ومراهنتهم ،رغم كل شيء، على الثقافة والفن والإبداع..
يكفي أن نضع رؤية طموحة وبعض مئات الملايين من الدينارات لكي يصبح «الجنون» الفردي للمبدعين واقعا إبداعيا واقتصاديا ومجتمعيا بعد ذلك ..
لابد أن ننقذ «سيني فوغ» بداية..
ولكن الرهان الحضاري والاقتصادي أضخم بكثير ولا ينبغي لنا أن نفوّت على أنفسنا وعلى فنانينا وعلى شبابنا هذا المنعرج التاريخي نتيجة حسابات اقتصادوية قصيرة النظر وعديمة الجدوى..