العزوف المتعاظم للتونسيين عن صناديق الاقتراع ..عزوف مرده الارتياب الكبير، إن لم نقل عدم الثقة في السياسة وأهلها وقدرتهم على تغيير الأوضاع وهيمنة الصورة التي تقدم السياسي كشخص نهم لا يهتم إلا بمصالحه الشخصية والحزبية ولا يلتفت لناخبيه إلا في فترة الانتخابات ليس إلا..
ينبغي أن نقر بداية بان نسبة المشاركة في الانتخابات في تونس ليست مرتفعة إذا ما قارناها بعدد المقترعين المفترضين،.. فهي فوق النصف بقليل في أحسن الحالات كما انه لدينا أكثر من ثلث الناخبين الافتراضيين غير مرسمين بالقائمات (حوالي ثلاثة ملايين تونسية وتونسي في سن الاقتراع) كل هذا لكي نقول بان العزوف عن الانتخابات وصندوق الاقتراع ليس وليد اليوم ولا نتيجة مباشرة فقط لخيبة الأمل في السياسيين بل وكذلك لعدم قدرتنا منذ انتخابات المجلس التأسيسي على إدماج نصف التونسيين في هذا المسار السياسي الديمقراطي الجديد.. ولكن مع كل مرحلة انتخابية لاحقة يزداد عزوف المواطنين بدل أن يتقلص..
في سبر الآراء حول نوايا التصويت الذي قامت به مؤسسة سيغما كونساي هذا الشهر (انظر مقال حسان عيادي يوم أمس) نفاجأ بحجم نسب أولئك الذين يقولون بأنهم لن يصوتوا (حوالي 19 % في الرئاسية والتشريعية و 22.3 % في البلدية ) كما نلاحظ أن نسبة الذين لا يعرفون هل سيذهبون أم لا إلى صندوق الاقتراع وان ذهبوا فهم لا يعرفون، إلى حدّ هذا اليوم ، لمن سيصوتون ..هذه النسبة، وفي كل الحالات ارفع من نسبة الذين ينوون الذهاب إلى الخلوة يوم التصويت. فلو أخذنا على سبيل المثال نوايا التصويت في الانتخابات البلدية القادمة نجد أن أكثر من ثلاثة أرباع المستجوبين (77.3 %) يتوزعون بين من سيقاطع التصويت (22.3 %) ومن لا يعرف (45.1 %) ومن يرفض حتى مجرد الإجابة عن هذا السؤال (%9.9)
الأمر أقل حدّة بالنسبة للانتخابات الرئاسية والتشريعية إذ تنزل النسبة من 77.3 % إلى 67.7 % ..
لاشك أن الحملة الانتخابية واقتراب موقع الاقتراع سيغير بصفة واضحة هذه الأرقام ولكن ما نراه في عملية سبر الآراء هذه خاصة وأنها تمت وفق تقنية الحوار المباشر وفي منازل المستجوبين أن هنالك قرفا كبيرا من السياسة والسياسيين وأنّ سمعة الأحزاب السياسية سيئة للغاية ..
ولكن بالنسبة للأقلية التي أعلنت عن نوايا تصويتها (22.7 % في البلدية و 33.3 % في الرئاسية والتشريعية) فهي قد أبقت، تقريبا، على نفس الموازين السياسية التي ورثناها عن الانتخابات العامة لسنة 2014 ولكن في العدد المطلق لقد خسر نداء تونس نصف ناخبيه وخسرت حركة النهضة حوالي 40 % من ناخبيها دون أن يستفيد أي حزب أو مشروع حزبي ، إلى الآن ، من هذه الوضعية الجديدة..
هنالك فراغ سياسي واضح في البلاد ،عجزت المنظومة الحزبية الحالية، حكما ومعارضة، عن ملئه رغم كثرة الأحزاب وكثرة العروض الحزبية ولكن يبدو أن جزءا هاما من التونسيين لم يجدوا بعد ضالتهم في هذا العرض المنتفخ بصورة غير طبيعية..
نحن في وضعية شبيهة ، إلى حدّ ما، بربيع 2012 حيث بدأت شعبية الترويكا الحاكمة في التآكل دون أن يستفيد منها، آنذاك، أحد..
ثم بمجرد تأسيس نداء تونس صعدت أسهمه بصفة صاروخية بعد أشهر قليلة من النشاط..
اليوم هنالك نفس تآكل الشعبية لأحزاب الحكم ولكننا لا نرجح صعودا صاروخيا كذلك الذي حدث منذ نهاية 2012..
إن حالة الضجر العامة وغلبة التشاؤم على أكثر من ثلثي التونسيين يجعلان من الارتياب أمام كل المشاريع السياسية الحالية أو القادمة عنصرا هاما في نفسية التونسيين..
ولكن نعلم جميعا انه لا استمرار لديمقراطية دون منظومة حزبية تعددية تحظى بمقبولية هامة من قبل المواطنين..
نحن الآن في منعرج تحف به مخاطر الشعبوية من جهة والحنين إلى القبضة الحديدية من جهة أخرى..منعرج حتم على الجميع إحداث تغييرات جوهرية على العرض السياسي الحالي من حيث البرامج والأفكار والممارسات والأشخاص كذلك..
البلاد تحتاج إلى موجة سياسية جديدة وإلاّ فالكارثة لن تكون بعيدة عنّا كثيرا .