لا شك أن الحرية لا تشبع الجائع ولا تطفئ ظمأ العطشان وصاحب الحاجة ولا شك أيضا أنها لا تنتج مباشرة وبصفة آلية الاستقرار والأمان والعمل والإنتاج والرفاه...
ولا شك كذلك أن الحرية تنتج انفلاتات شتى على حد العبارة المفضلة لرئيس الجمهورية...
ولكن ما أجمل أن «يتنفس المرء حرية» وما أروع أن تعيش في بلد لا تخشى على نفسك وأهلك وذويك من كلمة قلتها أو من رأي عبّرت عنه حتى بين أصدقائك وأحيانا في محيطك العائلي كما يحصل ذلك تحت كل الأنظمة الاستبدادية...
ولكن الحرية كالروح السارية في الجسد لا تُرى في ذاتها بل تتجلى لنا فقط تمظهراتها.. وما كل حالات ظهورها تخدم غايتها الأصلية وما كل حالات ظهورها تبعث على الاطمئنان بأننا فعلا نسير على الدرب الصحيح...
الحرية لا يمكن أن تترجم سياسيا إلا في الديمقراطية... والديمقراطية في المجتمعات الحديثة لم تعرف، إلى حد الآن، إلا شكلا واحدا وهو النظام التمثيلي الانتخابي المرتكز على الأحزاب السياسية... وكل دعوة لنسف إحدى هاتين الدعامتين: التمثيلية والحزبية إنما هي دعوة لإرساء منظومة استبدادية أيّا كانت الشعارات المرفوعة والإيديولوجيا التي تسندها...
ولكن الإشكال في بلادنا أنه لدينا شكل التعددية الحزبية (أكثر من مائتي حزب) دون أن تكون لدينا حياة حزبية سليمة.. أي دون أن تكون لدينا المنظومة الحزبية القادرة على الحكم بداية والقادرة على تأطير المواطنين ثانية فأصبحت لدينا الوضعية السريالية التالية: أحزاب قادرة على الفوز في الانتخابات ولكنها غير قادرة على إدارة الحكم وهي تكاد تكون غائبة تماما في الحياة اليومية للمواطنين... بل يكاد ينحصر الوجود الحزبي – بالنسبة لعامة المواطنين – فيما يشاهده في وسائل إعلامه المرئية عندما يقع تغطية نشاط مجلس نواب الشعب أو دعوة السياسيين في بعض الحصص الحوارية..
فيما عدا ذلك لا شيء يكاد يذكر... صحيح أن بعض الأحزاب تقوم بنشاطات مهمة داخل البلاد ولكنها لا تمس إلا المتعاطفين جدا معها ولا يكاد يشعر بها أهالي الجهة إلا عندما يصطدمون بلافتة يتيمة...
لا ينبغي أن نكون صارمين جدا فجل الأحزاب السياسية لم تنشأ إلا بعد الثورة وحتى تلك التي أحدثت قبلها كان نشاطها مضيّقا عليه إلى أبعد الحدود إن لم تكن مضطرة للسرية أو للغربة...
ولكن عدم تطابق العرض الحزبي مع الطلب الشعبي اليوم قد يحدث عزوفا متعاظما بدأنا نشعر به منذ سنة 2014 عندما فقدنا حوالي نصف مليون ناخب مقارنة بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011... وأخشى ما نخشاه أن يتواصل هذا العزوف في الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها – نظريا – في نهاية هذه السنة...
والإشكال يعود في أحد أبعاده إلى افتقادنا لأحزاب حكم اليوم.... فلا حركة النهضة ناضجة اليوم لهذه المهمة ولا نداء تونس الذي تشظى إلى شقوق وفرق متناحرة كما لم يحصل ذلك في أي حزب في العالم بمثل هذه الشاكلة جاهز لذلك أيضا..
فالناخبون يتوجهون للصناديق بغية انتخاب من يسيّر الشأن العام (الأغلبية) أو لديه القدرة على ذلك (المعارضة).. فكانت النتيجة، إلى حد الآن، أن الأحزاب الفائزة لا تسعى إلا للسيطرة على أجهزة الدولة ضمن شبكات زبونية جديدة قديمة... أما تسيير الشأن العام فيُترك للدولة دون أن تكون الأحزاب الفائزة لا قوة اقتراح ولا قوة توجيه...
هذا الشرخ بين الطلب والعرض السياسيين سيملأ ولا شك لأن الطبيعة تكره الفراغ ولكن أخشى ما نخشاه أن تستغل هذا الفراغ قوى ضعيفة الإيمان بالديمقراطية بحجة حاجة البلاد إلى «رجل قوي» يعيد الاستقرار بأي ثمن... أو يسهم كل هذا في إفراز قوى شعبوية قد تزيد في نزيف البلاد وفي سلوك السياسات الخاطئة...
لدينا اليوم أكثر من مائتي حزب ولكن البلاد تحتاج إلى بعض الأحزاب القادرة إما على تسيير الشأن العام أو على تمثيل بديل جدي عن السائد...
ملء الفراغ السياسي هو أحد التحديات الكبرى المطروحة اليوم على البلاد... وسوف نرى هل ستتمكن المنظومة الحزبية الحالية من تحقيقه، ولو جزئيا، في الانتخابات المحلية القادمة...