لا شك لدينا بأن بلادنا رغم كل ما يوحّد بين أبنائها مازالت تشكو من صراع ذاكرات جماعية متناقضة بل ومتصارعة ومازالت فيها أقدار من الاقصاء المتبادل ومن الظلم لذوي القربى.. ظلم زادته مهاترات السياسة ظلما على ظلم...
بإمكاننا جميعا أن نشكك في الفريق المسير لهيئة الحقيقة والكرامة وفي رئيستها المثيرة للجدل وفي طريقة تسييرها وتموقعاتها الفكرية والسياسية ولكن هذه كلها جزئيات مهما كبرت.. ويبقى الأساس مسار العدالة الانتقالية ومراحله الأساسية من كشف الحقيقة واعادة الاعتبار للضحايا وجبر الضرر بالنسبة لهم واعتراف الجلادين - ان اعترفوا - فالمصالحة الوطنية الشاملة والعميقة...
شاهدنا واستمعنا يوم أول أمس الى شهادات أمهات بعض شهداء الثورة بالاضافة الى زوجة وأم سجين اسلامي قتل تحت التعذيب واختتمت السهرة بشهادتي سامي براهم المثقف الاسلامي وجلبار نقاش المناضل والكاتب اليساري...
ورغم خروج بعض الشهادات على معنى الشهادة الحقيقي والاستعاضة بتحليل سياسي أو موقف شخصي ممّا وقع وممّا يقع اليوم في البلاد.. ولكننا عشنا لحظات من الصدق ننسى معها وبها صراعات الحاضر والماضي وانتماء زيد أو عمر لنتذكر جماعيا بأننا عشنا طيلة عقود في منظومة كانت تمنهج إذلال واهانة ونفي الانسانية على كل من يخالفها أو يخرج عن نمطها.. وأن هذه المنظومة معقدة لا تبدأ فقط مع الايقاف أو الاستنطاق بل تتجاوزهما الى مرحلة السجن وحتى الى ما بعدها ليصبح الوطن كله سجنا كبيرا للمعني بالأمر ولعائلته..
وهنالك أناس كثيرون قد انخرطوا في منظومة الاهانة هذه من موظفي الدولة..
بعض هذا كان معلوما لدى المهتمين بالشأن العام ولكن ليس العلم النظري كما الشهادة الحية خاصة عندما تنبض صدقا...
ولكن جلّ مواطنينا كانوا يعيشون في عالم غير هذا العالم المليء بالخوف واللا انسانية ومن واجب كل مواطنينا وأيا كانت ذاكرتهم الجماعية أن ينصتوا لمختلف هذه الشهادات حتى يدركوا تمام الادراك ما كان يُمارس في بلادنا وما تعرّض له بعض بني قومنا وعددهم يُحسب بعشرات الآلاف على الأقل...
وعندما نقول هذا فنحن لا نريد أن ننفي على دولة الاستقلال نجاحات كبيرة في مجالات أخرى هي بدورها جزء هام في ذاكرتنا الجماعية الايجابية..
انه من غياب الذوق ومن غياب الاحساس الانساني في حدوده الدنيا أن يتم الاستهزاء بمثل هذه العذابات والآلام أيّا كان رأينا في أصحابها وفي القضايا التي كانوا يؤمنون بها ويناضلون من أجلها..
ولا نفهم أيضا لِمَ يعتبر بعض السياسيين أن ما يُعرض في هذه الشهادات هو ضرب لصورة تونس ولسمعتها ونحن نستعد لاحتضان مؤتمر الاستثمار!!!
يبدو أن بعضهم لم يدرك بعد أنه حصلت ثورة في البلاد وأن لهذه الدموع والآلام والجراحات فضلا فيما نحن فيه اليوم... وأن كشف صفحة الماضي بقتامتها هو خدمة لتونس الجديدة ولصورتها اليوم في العالم...
وكم كنا نتمنى أن يحضر في هذه الجلسة الافتتاحية الرؤساء الثلاثة وذلك أيّا كانت اعتراضاتهم على رئيسة الهيئة وطريقة ادراتها...
انه من الخطإ ومن الخطر اعتبار أن كشف الصفحات المؤلمة والمظلمة في ماضينا هو ضرب لوحدتنا الوطنية الحالية لأنه يعني بكل بساطة أن البعض فينا مازال يعتبر نفسه مواصلة لسياسة الاهانة والاذلال ونفي انسانية الانسان...
ينبغي على الجميع أن يجعل من العدالة الانتقالية فرصة تاريخية لتوحيد ذاكرتنا الجماعية حول قيم الثورة التونسية وعلى رأسها الكرامة... وان لم تفلح العدالة الانتقالية في هذا فلا معنى لها ونجاحها وفشلها لا يرتبط، فقط، بهيئة الحقيقة والكرامة بل بالجهد الوطني برمته..
لهذا كنا نتمنى أن تكون هذه الشهادات بحضور كبار مسؤولي الدولة لأنها لبنة من لبنات بناء الغد رغم تحريكها لجراحات الماضي..
عندما ندرك أن الانساني أرفع من الايديولوجي والسياسي عندها نكون قد أمّنا ديمقراطيتنا الناشئة من الانتكاس وذاكرتنا الجماعية من الانشطـار...