نفهم من اسم المقترح رغبة أصحابه في تجنب السجال الإيديولوجي.. فالمسألة عندهم لا تتعلق بمنع «النقاب» بل بمنع «إخفاء الوجه».
لا شك أن دواعي منع «إخفاء الوجه» هي بالأساس أمنية ولكنها في عمقها تتجاوز الهاجس الأمني لتسائل قواعد عيشنا المشترك.. فما معنى أن تختار بعض مواطناتنا إخفاء كل إمكانية تواصل في الفضاء العام؟ والحال أن القاعدة الأساسية في الفضاء العام هي التواصل بمختلف أصنافه ودرجاته..
تختصر مسألة النقاب جزءا هاما من أزمة الفكر الديني في ربوعنا وعدم قدرتنا بصفة جماعية وواعية على التخلص من القوالب التي حنّطت هذا الفكر على امتداد قرون..
فما معنى أن يعتقد بعضنا أن ارتداء «النقاب» أو حتى «الحجاب» هو واجب شرعي؟ وما معنى أن يفتي من يعتبرون أنفسهم من «علماء» هذه الأمّة أن تغطية الشعر مسألة محسومة لا تناقش وأن تغطية الوجه إنما هي، وإن كانت من باب التزيّد، درء لكل مداخل «الفتنة»..
وما معنى أن يقول هؤلاء أن المكان الطبيعي للمرأة هو بيتها وإن اضطرت للخروج فعليها أن تخفي كل مظاهر «زينتها» أي أن تعدم حضورها بالكامل بين الناس؟!
هذا غيض من فيض كما يُقال وهو يؤشر في الحقيقة إلى عقدة الفكر الديني في علاقته بالمرأة وحقوقها وجسدها..
لا شك أن جلّ المجتمعات العربية قد تطورت في نظرتها للمرأة وفي القيم الاجتماعية المصاحبة لحضورها في الفضاء العام كالحشمة والاختلاط وغيرها.. ولكن لا بد من الإقرار بأن التفكير الديني بمختلف مدارسه من الرسمي المؤسسي إلى التكفيري مرورا بما يسمى بـــ«الوسطي» لم يقدر إلى حدّ الآن على تجاوز النظرة الكلاسيكية للمرأة باعتبارها بالأساس عورة لا بد أن تتوارى عن الأنظار ثم يحصل خلاف فقط حول حجم ومدى هذه العورة..
أشرنا لكل هذا لنبين انطلاقا من هذا المثال المحدود أن وهم مقاومة الفكر المتطرف والتكفيري بـــ«الفكر الإسلامي المعتدل» لا يعود إلى عجز هذه الحضارة على إنتاج فكر معتدل بل لغياب هذا الفكر – إلى حد الآن – فيما يسمى بالساحة الإسلامية..
بقيت مسألة أخرى لا بد من مناقشتها بكل هدوء: هل النقاب هو اللباس الرسمي للفتيات المنخرطات في الحركات السلفية الجهادية الإرهابية أم أنه يتجاوزهن لغيرهن من الفتيات؟ وتكمن أهمية هذا السؤال في تبيّن الشريحة المستهدفة بقرار المنع لو تم إقراره كقانون للجمهورية التونسية..
ما يعلمه الجميع أن ارتداء النقاب هو شعار كل التيارات السلفية على مختلف مشاربها وتوجهاتها بدءا بما يسمى بـــ»السلفية العلمية» وصولا إلى السلفية الإرهابية.. ويمكن أن نجزم أننا لا نكاد نجد فتاة منتقبة خارج هذه التيارات...
إذن هل نستهدف كل هذه التيارات باعتبارها «دخيلة» على تونس أم أن قانونا كهذا سوف يدفع إلى المزيد من الراديكالية في هذه الأوساط؟
لا ينبغي أن نستهين بهذه المسائل وبلادنا تخوض حرب وجود ضد الإرهاب.. فما نريده جميعا هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه الفتيات من براثن الجهل والإرهاب وقد يكون إصدار قانون يجرّم ارتداء النقاب عنصرا إضافيا في خسارة بعضهن.. ولكن لا يمكن أن نتغاضى كذلك على ما يمكن أن يمثله ارتداء النقاب من خطر على الأمن الوطني.. فالأحداث التي تؤكد استعمال النقاب لإخفاء إرهابيين خطرين أكثر من أن تحصى...
ينبغي على المشرع غدا أن يأخذ هذين العنصرين في حسبانه: الأمن الوطني بداية وعدم الزج بالمزيد من شبابنا في براثن التطرف والإرهاب ثانيا.. وهذا يعني أن التشريع دون القيام بعملية تحسيس وتفسير قد لا يكون مفيدا كثيرا..
المطلوب اليوم هو طرح هذه القضية على بساط النقاش العام وألاّ نختصرها فقط في مسألة ارتداء النقاب.. لا بد أن نلمّ بكل أبعاد القضية بدءا بالثقافة الدينية المترهلة ومرورا بالسلوكيات الانزوائية لدى جزء من الشباب وصولا إلى التعبيرات الظاهرية من نقاب ولحى طويلة وقمصان... والإشكال في بلادنا هو أننا لا نقدر عادة على حوار هادئ حول هذه القضايا..
إن إقدام كتلة نيابية (الحرة) على تقديم مبادرة تشريعية فيها الكثير من الحذر هو أمر إيجابي للغاية ونأمل أن تحظى هذه المبادرة بالانتباه الجدي للجميع وأن تجد هذه المبادرة طريقها، سريعا، إلى النقاش البرلماني والشعبي..
إن هذه المناقشة الجدية الرصينة في قضية النقاب هي لحظة هامة ولا شك في طريقنا الطويل في الحرب على الإرهاب والتكفير وكل أصناف التطرّف...