المنظمات الكبرى في تونس: إلى أين تقودنا الأزمات المركبة ؟

فرض تقديم الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي

لطلب استقالة من منصبه وقعه على البلاد وسلط الضوء على عمق أزمة المنظمات الوطنية الكبرى، التي باتت اليوم على مفترق طرق، إذ يواجه الرباعي الاتحادات، اتحاد الشغل واتحاد الأعراف، واتحاد الفلاحين واتحاد المرأة أزمة مركبة على كل المستويات أثرت بشكل جلي على دورها كوسيط بين الدولة والمجتمع.

هذه الأزمة التي تعيشها المنظمات الاجتماعية التاريخية، ليست مجرد صدام مع السلطة أو فتور في العلاقة، بل هي خليط من ذلك ومن أزمات داخلية، مالية، شرعية، وهيكلية، وقانونية، مما يجعلها أكثر عمقا وأشد خطورة من أي تحدٍ سابق خبرته. وهو فراغ يتزامن مع تصاعد الضغوط من السلطة التي تريد إعادة تعريف دور هذه المنظمات في الحياة السياسية والاجتماعية.

المثال الحي على هذه الأزمة المركبة هو الاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة الأبرز في البلاد تاريخيا. اذ ان تقديم نور الدين الطبوبي طلب استقالته كشف عن هشاشة داخلية و التصدع في الاتحاد الذي بات مشتت بين وضع داخلي معقد ومناخ سياسي معادي، والأمر لا يختلف كثيرا لمنظمة الأعراف التي تأخر عقد مؤتمرها ليؤكد أن المشهد التنظيمي صلبها لا يكشف فقط عن عدم الافتقار للقدرة على تقديم خطاب مغاير لسردية السلطة المناهضة لرجال الأعمال، بل وعن عمق أزمة الشرعية الداخلية التي غيبته عن المشهد بشكل شبه كامل منذ 2021.

وعلى غرار الاتحادين، يعيش كل من اتحاد الفلاحين واتحاد المرأة وضعا متأزما، فالأول يعاني أزمة شرعية واضحة. باتت اليوم تتمثل في النزاع حول من يمثل القطاع ومن يملك القرار الفعلي، ليبرز الانقسام بين المركز والفروع الجهوية، وكشف عن هشاشة آليات حل النزاعات الداخلية منذ 2021. هذا الصراع الداخلي ينعكس مباشرة على قدرة المنظمة على التدخل في السياسات الفلاحية والاقتصادية الوطنية، ويضعف مصداقيتها في أعين منظورها،أما الثاني فان أزمته المالية تضيف بعدًا اخر لمشهده الداخلي المركب، اذ ان الاتحاد الوطني للمرأة التونسية يعيش على وقع ازمته المالية منشغلا عما سوها تقريبا مما يهدد بقدرته على الاستمرار في المشهد رغم كل مساعي قادته.

هذا الضعف المؤسسي الذي باتت عليه المنظمات الاربعة يجعل من قدرتها على التأثير السياسي والاجتماعي في ظل الضغوط الخارجية محدود، خاصة في بيئة سياسية تتسم بالتضييق على الفعل المدني، ليكون المشهد الناجم عن هذا التراكب، منظمات كبرى غير قادرة على التأثير رغم احتجاج بعضها وتحركاته ومحاولة البعض التفاوض، مما يهددها بفقدان شرعيتها الرمزية أمام قواعدها والمجتمع على حد سواء. وهو ما قد يعمق عزلتها التي تفرضها السلطة عبر خياراتها السياسية الكبرى ورفضها للأجسام الوسيطة.

هذه الأزمات المركبة—الشرعية، الهيكلية، المالية، والسياسية—تضع المنظمات الأربع الكبرى في موقع ضعف حاد أمام الضغوط الخارجية، في ظل بيئة سياسية تتجه نحو التضييق على الفعل السياسي وإلغاء الأجسام الوسيطة وتطويع الفضاء العمومي.

والخطر هنا مزدوج، أولًا، على المنظمات نفسها التي لم تعد مهددة فقط بفقدان القدرة على التأثير، بل بفقدان الشرعية الرمزية لدى قواعدها والمجتمع، مما يفتح الباب أمام تعميق عزلة المنظمات قد تؤدي إلى تفككها أو إعادة صياغتها تحت ضغط السلطة، بما يجعلها مجرد أدوات تنفيذية بدل أن تكون أجسامًا وسيطة تمثل المجتمع.

ثانيًا، على الدولة والمجتمع، إذ أن انهيار أو تقييد هذه المنظمات يهدد التوازن الاجتماعي والسياسي في البلاد. فقد كانت هذه المنظمات الكبرى الوسيط التاريخي الذي يحد من احتكار السلطة للقرار ويضمن مشاركة المجتمع المدني في صياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية، على رغم ما يوجه إليها من انتقادات في مراحل مختلفة من تاريخ تونس، الا ان ضعفها الراهن قد يؤدي الى ان يصبح الفضاء العمومي خاضعًا بالكامل لتوجهات السلطة، ما يزيد من هشاشة المجتمع المدني ويقلص فرص الحوار والتفاوض، ويضاعف احتمالات الاحتقان الاجتماعي والتوترات السياسية التي قد تؤدي الى انتفجار اجتماعي لن يكون من الممكن تاطيره.

باختصار، أزمة المنظمات الكبرى في تونس التي لا يمكن ربطها حصرا بصراعات داخلية أو بخلافات مع السلطة، هي أزمة بنيوية، لا تهدد المنظمات او السلطة بل تشكل تهديدًا مباشرا للتوازن الاجتماعي والسياسي في البلاد، والاستمرار في سياسة إلغاء الأجسام الوسيطة وتحجيمها من أجل تطويع الفضاء العمومي ما يزيد من خطورة هذه الأزمة، ويضع تونس أمام مخاطر طويلة المدى قد تعيد تشكيل مشهدها الاجتماعي والسياسي بشكل جذري.

في ظل الواقع التونسي المركب تصبح أزمة المنظمات الكبرى ازمة مجتمعية شاملة، انعكاساتها ستغير بشكل شامل صورة الدولة والمجتمع والسياسة، فهذه المنظمات وغيرها من الأجسام الوسطية أصبحت مساحة اختبار لقدرة تونس على صمود مؤسساتها والاحتفاظ بحدود الشرعية الاجتماعية والسياسية

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115