حول تونس والانتقال الديمقراطي: I - أزمة المفاهيم والهدف

حظي عدد جريدة «المغرب» ليوم الاثنين غرة ديسمبر الجاري

باهتمام لافت وكان محلّ نقاش تونسي تونسي على صفحات التواصل الاجتماعي بين ناقد ومضيف ومؤيد ومستهجن وهذا الاهتمام شدّ من عزائمنا ويقيم الدليل أن الصحافة الورقية الجادة رغم كل مصاعبها وأزماتها مازالت قادرة - ولو جزئيا - على قدح الأفكار وتأطير النقاش العام.

وقد كان لافتتاحية هذا العدد «نهاية الانتقال الديمقراطي!» نصيبها من هذا الاهتمام جلّه كان اضافة واثراء ونقدا من أقلام تونسية هامة وبعضه تهجما على «نوايا» و«خلفيات» و«تاريخ» صاحب المقال كاتب هذه السطور. وهذه «قاعدة» النقاش الهعمومي في بلادنا جزء يذهب للجوهر وآخر للعرضي.

لا نريد هنا أن ندافع عن نصّ كتبناه فإن لم يكن قادرا على ذلك بذاته فلا فائدة ترجى من الدفاع عنه. نرى أن تعميق النقاش حول الانتقال الديمقراطي في تونس بسلبه وايجابه مسألة ملحة اليوم ونحن نشهد - حسب رأيي - دق المسمار الأخير في نعشه..

إن مسألة الديمقراطية والانتقال الديمقراطي وعلاقتهما بالتيار الاسلامي وحركة النهضة على وجه الخصوص مسألة تستدعي الوقوف مطولا عندها وهذا ما ننوي القيام به في هذه السلسلة.

لا نريد أن نعود هنا الى نظريات الانتقال الديمقراطي كما ظهرت في افريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية ولكن الفكرة الأساسية في كل هذه النظريات والتجارب أنه لا يمكن عمليا المرور مباشرة من الاستبداد أو التسلط الى الديمقراطية وأنه وأنه لابدّ من مرحلة انتقالية بينهما ان نجحت فستمر البلاد الى الديمقراطية وان فشلت فقد تعود لما إلى أشكال مختلفة من التسلط أو حتى إلى الفوضى وترهل الدولة.

الانتقال الديمقراطي اذن مرحلة مؤقتة قد تستغرق بضع سنوات والمطلوب منها أن تقوم بجملة من الاصلاحات للتمهيد لديمقراطية فعلية ناجزة.

الفكرة الأولى الأساسية اذن أن الانتقال الديمقراطي لا يمكن أم يكون مرحلة دائمة وأبدية لشعب من الشعوب وهنا من يقول أن الاتنتقال الديمقراطي لن يموت انما هو من قبيل التجوّز في الكلام لأنه مدعو بطبيعته الى «الموت» فالانتقال سيفنى حتما اما في الديمقراطية أو التسلط والفوضى وبهذا المعنى عشرية الانتقال الديمقراطي في تونس ليست مرحلة ديمقراطية كما أنها ليست مرحلة تسلطية بل تجمع في جدليتها بين الاثنين الى حين انتصار حدّ من هذه الجدلية على الآخر..

إن التمييز بين الديمقراطية والانتقال الديمقراطي مسألة جوهرية لتجنب اتهام الديمقراطية (كنظام حكم وكقيم وكثقافة) بالعيوب الضرورية للانتقال الديمقراطي...

وهذا سيتوجب منا توضيح المعنى الصريح للديمقراطية، وهذا نقاش لم نخضه بما يكفي في تونس.

عند جلّ النخب التونسية مفهوم «الديمقراطية الليبرالية» مشحون بكمّ هائل من القيم السلبية المتأتية من مفهوم «الليبرالية» الذي يعني عند جلّنا جشع رأس المال وتعميم الريع والفساد والتبعية للقوى الامبريالية، ولهذا تتم عادة الاستعاضة عن مفهوم «الديمقراطية الليبرالية» بما يُعتقد أنه نقيضها: «الاديمقراطية الاجتماعية» التي تغيّر «منوال التنمية» وتحقق «أهداف الثورة»،،

ولكن ما هو المضمون العملي للديمقراطية الاجتماعية؟

عندما نأتي الى التفاصيل تونسيا سنجده يتراوح ما بين التجربة السكندينافية الى تجربة شافيز في فينيزويلا مرورا بأصناف مختلفة من اشتراكية الدولة الى شعبويات اليمين واليسار.. ولو دققنا النظر عند الأغلب الأعم من الداعين لهذه الفكرة لوجدنا أنها تستبطن عندهم نوعا من العداوة للتعددية واستهجانا للحركة الحقوقية والتي يصفونها سخرية بالحركة «الحكوكية»..

ولكن بعض هذه النخب يعلم جيّدا أن «الديمقراطية الاجتماعية» هي أحد أشكال «الديمقراطية الليبرالية» ولكن من يجرؤ في بلادنا على تبني هذا المفهوم المتهم في ذاته؟!

الاشكال اذن أن جلّ نخب البلاد في العشرية الأولى للثورة قد آمنت بالانتقال الديمقراطي ولكن دون تحديد وجهته وغايته وبالتالي الآليات الكفيلة لنجاحه.

نضيف الى كل هذا أن مفهوم «الانتقال الديمقراطي» يستبطن عند واضعيه الانتقال من نظام تسلطي استبدادي الى نظام ديمقراطي ليبرالي، ولكن لننظر ما المقصود بالضبط بالديمقراطية الليبرالية.

كنا قد أتينا على ما نعتبره أساسا في تعريف الديمقراطية الليبرالية في سلسلة بخمس حلقات نشرت بـ «المغرب» في جوان 2014 تحت عنوان «لا بديل ديمقراطي عن الديمقراطية الليبرالية» لذلك سنكتفي هنا بما نعتبره السمات الأساسية للديمقراطية الليبرالية.

• أول هذه السمات وأهمها على الاطلاق هو دولة الحق (l’Etat de droit) أو كما نسميها في تونس دولة القانون، ولدولة الحق ركائز ثلاثة:

- هرمية القاعدة القانونية، من الأدنى الى الأعلى صعودا، وهذه الهرمية تلزم الدولة وتمنعها - نظريا - من الاعتباط.

- المساواة في القانون وأمامه أي غياب التمييز من أي صنف كان في نص القانون ومساواة تامة في التطبيق.

- الفصل بين السلطات ومنع طغيان واحدة منها على الأخريين.

• ثاني هذه السمات هي الايمان بأن للفرد، أيا كان هذا الفرد، حقوقا طبيعية تترجم الى حريات في مختلف أبعادها الفلسفية والسياسية والاجتماعية وأنه لا يجوز الحدّ من هذه الحقوق بتعلات تمس من جوهرها.

• ثالث هذه السمات هو اقتصاد السوق المحرر من منظومات الامتيازات والزبونية السلطوية وحماية الاقتصاد لا الأثرياء وتحرير المبادرة الفردية لكل مواطنة ومواطن وضمان انسيابية الفعل الاقتصادي وجعل الثراء امكانية متاحة للجميع مع الفصل بين عالمي المال والسياسة حتى لا نؤسس لنظام امتيازات جديد.

اقتصاد السوق الشفاف والمفتوح هو ضمانة أساسية للديمقراطية، فدولة تملك كل شيء لا ولن نعطي كل شيء، كما أن تكديس الثروة في أيادي أوليغارشية سيفقد الديمقراطية مضمونها ومحتواها..

الديمقراطية الليبرالية تمشي على ساقين: الحرية والمساواة، فإذا اختل هذا التوازن دخلت الديمقراطية في أزمة وقد تنهار كذلك.

والديمقراطية الليبرالية ليست هي الحدّ الأقصى بل الحدّ الأدنى الضروري لامكان قيام ديمقراطية تضمن الحقوق والحريات والمساواة، والديمقراطية الاجتماعية والدولة المُخططة (l’Etat stratège) كلها أشكال وأنماط حكم داخل اطار الديمقراطية الليبرالية.

يبدو لي أن عدم وضوح هذا الهدف للانتقال الديمقراطي وعدم الاجماع عليه، بل الاجماع على نقيضه هو من أفقد الانتقال بوصلته ووسع من مستنقعات التعفن فيه وغيّب الاصلاح بصفة تكاد تكون كلية لأنه لا اصلاح دون وضوح الهدف ودون توافق أغلبية النخب وفئات المجتمع، فالاصلاح أعسر بكثير من الثورة وهو يتطلب جهدا متصلا ومتواصلا يتعلق أساسا بإصلاح الدولة وأجهزتها الصلبة والرخوة وتعميم الثقافة الديمقراطية المنفتحة وتكريسها في المدرسة والأسرة والمجتمع، ولقد أخفق الانتقال الديمقراطي في تونس بوضوع في هذين المجالين فلا الدولة تدمقرطت ولا المجتمع كذلك ولا النخب السياسية والفكرية والاجتماعية تمكنت من تعميق الديمقراطية لا فقط كأداة للتداول على السلطة عبر الانتخابات بل كقواعد دنيا لعيش مدني مشترك..

ونتيجة هذا الاخفاق انكفأت الدولة بعد انفتاح نسبي وكفر جزء هام من التونسيات والتونسيين بالانتقال الديمقراطي وبالثورة وبالديمقراطية اذ كانت السياسة - في الأغلب الأعم - حلبة صراع التنافي وأصبح النجاح فيها مرادفا لالغاء الآخر رمزيا وإن أمكن ماديا كذلك.

وما زاد الطين بلّة، كما يقال، انفجار الإرهاب السلفي الجهادي المعولم وممارسة الحكم - كليا أو جزئيا - من قبل حركة اسلامية، حركة النهضة فأضحى الانتقال الديمقراطي كابوسا عند العديد من التونسيات والتونسيين واختلطت الأمور عندهم واستغلته جهات عدة - داخليا وخارجيا - على بلبلة الأذهان وتعميق العداوة حتى أضحى التخلص من الانتقال الديمقراطي مطلبا تجتمع حوله الدولة وأجهزتها وفئات هامة من النخب والمواطنات والمواطنين

يتبع

في عدد قادم:

II - الانتقال الديمقراطي ومعضلة

الإسلام السياسي

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115