لاتحاد الشغل ليوحي بأن القادم حدث أكبر، يمتد أثره على المشهد الوطني، ويعيد ضبط إيقاع البلاد سياسيا واجتماعيا، قبل أن يبدأ حتى أول خطوة له في الشارع. بما يشبه إعلانا ناعما عن مرحلة جديدة في تونس، التي قد تشهد تحولا في نسق الاحتجاج وتدفع بالاتحاد العام التونسي للشغل ليشغل مساحته كمركز ثقل قادر على تحويل الغضب الخام إلى مطالب منظّمة على رأسها الحوار الاجتماعي.
فالسياق العام الراهن المتسم بصراع مكتوم بين السلطة والاتحاد، الذي بلغ ذروته بإدراج فصل للزيادة في الأجور في مشروع قانون مالية 2026، أعلنت من خلاله السلطة عن إنهاء هندستها الجديدة للحكم التي تجعل من عملية صنع القرار مركزية تحتكرها مؤسسة وحيدة لا يُخفى رفضها للأجسام الوسيطة ولا سعيها إلى تحييدها، بهدف التحكم في نسق الحياة السياسية.
مركزة للقرار وتوحيد لمراكز النفوذ لتصبح واحدة، ولّد حالة سياسية فرضت أشكالا جديدة من الاحتجاج وإعادة تحديد لسمات المحتج، الذي بات تكوينه فسيفساء من القوى الشبابية والمنظمات الحقوقية والمهنية وعائلات وأسر مسجونين وغيرهم، ممن ينتفضون اليوم ضد غلق الفضاء العام وغلق كل أشكال الحوار.
محتجون رغم ما قطعوه من خطوات، إلا أنهم يواجهون اليوم معضلة أساسية وهي القدرة على خلق توازن يمكنه أن يدفع السلطة إلى مراجعة خياراتها، وهذا ما يمتلكه الاتحاد بإرثه الذي يجسد قدرته على خلق توازن قسري، وهنا تحديدًا يتخذ التحرك المرتقب بعده. فالاتحاد اليوم لا يلوّح بمجرد الخروج للشارع للاحتجاج الرمزي بل للدفاع عن موقعه الذي لطالما لعبه في تاريخ البلاد، بصفته الضامن الاجتماعي والمنظمة التي تسائل السلطة وخياراتها الاجتماعية وتحملها مسؤوليتها.
ليكون الاحتجاج المرتقب، المتمثل في تجمّع أمام ضريح فرحات حشاد على بعد أمتار قليلة من قصر الحكومة بالقصبة، أشبه بتحذير يسبق انعقاد الهيئة الإدارية الوطنية، المنتظر أن تحسم خيارها بشأن الإضراب العام وموعده. هنا تصبح هذه الخطوة النقابية أقرب إلى مناورة سياسية، لا بمعنى معارضة الحكومات أو إسقاطها، بل بمعنى محاولة كسر احتكار القرار وفرض الحوار.
فالعنوان الرئيسي لتحركات الاتحاد اليوم، سواء تجمعه العمالي أو هيئته الإدارية وإضرابه المنتظر، هو استئناف الحوار الاجتماعي كأحد أدوات منح الشرعية لإدارة الدولة والمجتمع، وهو ما يتعارض مع مقاربة السلطة التي تتمسك برفض تقاسم نفوذ القرار، وهو ما يجعل البعد السياسي لهذا الصراع غير خافٍ.
فالاتحاد الذي خبر نتائج احتجاجاته السابقة، يدرك أنه اليوم لا يراهن من أجل تغيير المعادلة بل من أجل خلق حالة من الحراك الذي يولد ضغطا عبر الشارع يمكنه إظهار قدرة الاتحاد على التعبئة التي يلوّح اليوم بالذهاب إلى توظيفها كاملة عبر التلويح بالإضراب العام، وهذا ليس موجها فقط للسلطة بل إلى الطيف الواسع من التونسيين، وخاصة المنظمات والهياكل القطاعية والحقوقية التي يرغب الاتحاد في أن يستثمر زخم حراكه في إعادة ترسيخ تحالف معها.
هنا تكمن أهمية الحراك ودلالاته التي لا يمكن قراءته من خارج السياق العام الذي تعيشه البلاد، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. في إطار واقع معيشي ضاغط، حيث تتقاطع أزمات الأسعار والبطالة وتراجع القدرة الشرائية مع انسداد قنوات التفاوض، ما يجعل أي تحرك نقابي كبير أقرب إلى محاولة لإعادة هندسة العلاقة بين المجتمع والدولة.
فالاتحاد، وهو يستعيد أدواته ومساحته يسعى إلى فرض معادلة جديدة قوامها الاعتراف بالفاعلين الاجتماعيين كشركاء في القرار لا كمجرّد متلقين له ويشدد على أهمية التفاوض والحوار الاجتماعي كأداة لتفعيل الشراكة .
وفي ظل هذا المشهد، يصبح السؤال المطروح حول الكيفية التي سترسم بها حدود النفوذ بين السلطة ومجتمعها، وما إذا كان سيشكّل بداية مسار تفاوضي جديد أم لحظة تصعيد تفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر تعقيدا