ما بين إعلان النوايا وبداية المواجهة وبين الحرب الفعلية ضد هذه الظاهرة التي أضحت تمثل دولة داخل الدولة وتهديدا اقتصاديا وأمنيا وصحيا من الطراز المرتفع جدا...
أرقام عديدة تقدم حول حجم «الاقتصاد الموازي» من صنف أنه بلغ 50 % من الناتج الإجمالي المحلي بل ويذهب بعضهم في الدقة إلى أقصى مدى حيث يتحدث عن 54 % والحال أننا أمام تقديرات نظرية عامة لا تعتمد على معطيات ميدانية دقيقة... أما عندما نتحدث عن التهريب فالمسألة تصبح أعقد من ذلك لأن التهريب جزءا هاما ولا شك من الاقتصاد الموازي ولكن لا نعلم تحديدا حجمه الحقيقي ولا كمّ المواطنين الذين يمارسونه وما هو عدد شبكاته المحلية ولا كذلك الشبكات الإقليمية والدولية التي يتعامل معها...
ويعود جزء من جهلنا لحقيقة حجم التهريب إلى أن الحكومات المتعاقبة – رغم خطاباتها المعسولة – لم تشنّ حربا جدية على هذه الظاهرة بل اكتفت ببعض حملات المداهمة المتقطعة والجزئية دون أن يفضي ذلك إلى تفكيك ولو شبكة واحدة من شبكات التهريب...
ولكن أيّا يكن من الأمر فالواضح أننا أمام «نشاط» لا يقل وزنه عن بعض عشرات مليارات الدنانير سنويا... «نشاط» لم يعد مقتصرا على مواد بعينها أو جهات مخصوصة أو شبكة واحدة مركزية كما كان الحال زمن بن علي والعائلات المافيوزية... لقد أصبحنا أمام ظاهرة تشمل كل أنواع السلع والبضائع والعملة وهي ممتدة على كامل تراب الجمهورية ويبدو أن «مافياتها» متعددة ولا نعلم هل أن هنالك «تنسيق» بينها من صنف تقاسم المجالات أو أصناف البضائع أم لا؟....
كل هذا وغيره يبرر بلا شك إنشاء الفريق الأمني القار للتدخل السريع لمكافحة الفساد المحدث أخيرا برئاسة الحكومة والذي يضم قيادات ديوانية وأمنية وإدارية تحت الإشراف المباشر واليومي لرئيس الحكومة...
لم ترشح معلومات واضحة عن هيكلة هذا الفريق واستراتيجية عمله ولكن عندما نرى أن الصورة التي نشرت عنه بموقع رئاسة الحكومة قد حجبت صور كل أعضائه نعلم بأننا إزاء ما يشبه قيادة الكومندوس الحربي الذي لا يريد كشف هوية أفراده...
هل يمكن أن نقول بأن الحرب على التهريب قد بدأت فعلا؟
نعتقد أنه ينبغي التمييز بين إعلان الحرب وبين بدئها الفعلي... فإن كان الحجم الإجمالي للتهريب يقدر ببعض عشرات المليارات من الدنانير سنويا وإن كانت قيمة المحجوز في أبرز عمليتين لحكومة الشاهد لا يتجاوز ثلاثة أو أربعة ملايين من الدينارات ندرك أن ما حصل إلى حد الآن لا يصل إلى واحد من أصل عشرة آلاف من الحجم السنوي للتهريب وأن السلع المحجوزة رغم أهميتها لا تكاد تمثل سنبلة في حقل ممتد لذا يكون التأكيد على بدء الحرب مبالغا فيه شيئا ما...
يبدو لنا أن العتبة الرمزية لبدء الحرب لا يمكن أن تقل عن 1 % من حجم نشاط التهريب أي لا بد من حجز ما قيمته مئات الملايين من الدينارات في وقت قصير نسبيا لنقول باطمئنان بأن الحرب على التهريب قد بدأت فعلا...
هذا فيما يتعلق بالمداهمات الأمنية وبحجز البضائع المهرّبة ولكن لا معنى كبير لهذه الحرب إن لم ترافقها وتدعمها حرب قضائية تبدأ في تفكيك الشبكات وفي محاكمة بعض «الحيتان» بأصنافها وكذلك الأطراف المساندة لها والمقتاتة منها داخل أجهزة الدولة... هذه المرحلة الثانية ضرورية وأساسية وبدونها لا نجاح للمرحلة الأمنية حتى وإن كانت جدية وواسعة النطاق...
ولكن ومنذ الآن ينبغي أن نفكر في المستوى الاجتماعي من الحرب على التهريب...
تفيد الملاحظة العيانية لوحدها بأن هنالك مئات الآلاف من المواطنين المشتغلين في نشاط التهريب وخاصة في حلقته الأخيرة وهي ترويج البضائع المهربة...
فحرب جدية وقوية على التهريب قد تضع أجهزة الدولة، على المدى القصير، في مواجهة ....