انطلق بالكشف عن حكم صادر بالإعدام ضد المواطن التونسي صابر شوشان على خلفية نشر تدوينات على منصة فيسبوك، قبل أن يُفرج عنه أمس الثلاثاء، لنكون إزاء صدمة تكشف عن حجم التصدّع في منظومة العدالة التونسية، وعن ما باتت عليه علاقة الدولة بمواطنيها وبمفهوم القانون نفسه.
فأن يُحكم على تونسي بالإعدام بسبب منشورات تنتقد السلطة ثم يُفرج عنه بعد أيام قليلة من الضغط الشعبي والحقوقي، فإننا بالتأكيد لسنا أمام حدث عادي، بل أمام مؤشر على خلل بنيوي في توازن السلطة القضائية، وعلى هشاشة استقلالها أمام المناخ السياسي المتوتر الذي تعيشه البلاد منذ سنوات.
فما يكشفه الحكم الذي صدر عن المحكمة الابتدائية بنابل ضد صابر شوشان ـ وإن كان شديد الوطأة والقسوة مقارنة بأحكام أخرى طالت تونسيين وتونسيات على تدوينات وتصريحات إعلامية ـ لا ينبع من فراغ، بل من مناخ عام وقضائي باتت فيه التهم ضبابية، من قبيل إهانة رئيس الجمهورية والاعتداء على أمن الدولة، وإثارة الهرج والقتل والسلب، ونشر أخبار زائفة، وتبديل هيئة الدولة، وهي تُوجَّه ضد طيف من التونسيين القاسم المشترك بينهم انتقادهم للسلطة عبر منصات التواصل الاجتماعي أو عبر وسائل الإعلام.
هذا التراكم الغريب للتهم التي تستند إلى المرسوم 54 وعدد من فصول المدونة القانونية التونسية يعكس ذهنية قضائية جديدة تتوسع في استخدام النصوص الزجرية لتجريم التعبير، وتُحوّل القضاء من سلطة مستقلة إلى أداة لتأديب الخطاب العام ومعاقبة كل خروج عن السائد، على غرار الحكم الصادر على منصف هوايدي الذي أصدرت إحدى محاكم جندوبة حكمًا ضده بالسجن مدة سنتين وخطية مالية على خلفية تدوينات انتقد فيها السلطة ورئيس الجمهورية.
لكن وقع قضية صابر شوشان هو الذي أثار الصدمة في صفوف التونسيين الذين راعهم أن يصدر حكم بالإعدام ضد مواطن في قضية تتعلق بالرأي، وهذا لا يعود بنا فقط إلى مناخ الخوف الذي اعتقد التونسيون أنهم تجاوزوه بعد الثورة، بل إلى ما لم نختبره منذ الاستقلال.
ولئن الغرائب لا تأتي فرادى، ليقف التونسيون على ما هو أغرب من الحكم ذاته، وهو سرعة التراجع عنه، فبعد أقل من أسبوع على صدوره، أعلن عدد من محامي شوشان أنه تم الإفراج عنه يوم الثلاثاء 7 أكتوبر الجاري، تاركين الجميع في حيرة وسط غموض عملية الإفراج، ومن هي الجهة التي صدر عنها القرار، أهي محكمة الاستئناف أم سلطة الإشراف؟ وهل تم إبطال الحكم أم هو مجرد إطلاق سراح؟ وما هي الإجراءات المتبعة في هذه الواقعة وما هي النصوص القانونية المعتمدة؟
أسئلة لا إجابات عنها، مما يترك الجميع أمام ضبابية ليس من السليم التعامل معها على أنها تفصيل إجرائي، بل يجب النظر إلى كل الواقعة وما حفّ بها من غموض على أنها صورة مكثفة لمأزق القضاء التونسي اليوم، الذي يُصدر أحكامًا مثيرة للصدمة ثم يتراجع عنها دون توضيح. وهذا يحيلنا إلى نظامنا القانوني الذي يبدو أن الحدود فيه بين العدالة والإدارة تتقلّص، كما هو الحال بين الاستقلال والتوجيه.
إذ يجب أن نُنزِل واقعة حكم الإعدام والتراجع عنه في سياقها الأشمل، فالقضاء ليس معزولًا عن المناخ العام الذي تشهده تونس، كما أنه يتعرض إلى ضغوط سياسية مباشرة وغير مباشرة، بدءًا من حلّ المجلس الأعلى للقضاء سنة 2022، إلى موجة العزل والإيقافات التي طالت عشرات القضاة دون محاكمات عادلة. وقد أدت هذه السياسات إلى خلق حالة من الترهيب المؤسسي داخل الجهاز القضائي، جعلت الكثير من القضاة يتصرفون بحذر أو بولاء مفرط، خشية أن يكونوا الهدف القادم.
هكذا تحوّل القضاء من فضاء يضبط ميزان العدل إلى مرآة لارتباك الدولة.
وقضية شوشان تكشف بوضوح هذا الخلل: صدور حكم بالإعدام بسبب منشورات على منصة فيسبوك، في بلد يُفترض أنه يضمن حرية الرأي بمقتضى الدستور، ثم جهاز ـ لا يُعرف إن كان قضائيًا أو تنفيذيًا ـ يستدرك لاحقًا ويفرج عن المتهم دون أن يتم شرح ما حدث للرأي العام أو تبيان كيف ولماذا الحكم والإفراج.
مفارقة قد لا يكون من الممكن فهمها إلا إذا طرحنا سؤالًا عن المنطق الذي يشتغل به القضاء التونسي: هل هو منطق القانون فقط، أم منطق السلطة؟ وهذا هو الخطر الذي يتهددنا، فإن يتداخل المنطق القانوني مع منطق السلطة في مرافق العدالة نكون إزاء حالة من فقدان المعنى، لا يعرف فيها المواطن إن كان القانون يحميه أم يتهدده