الاقتصاد التونسي وخلل منظومة التمويل: متى يتوقف استنزاف الموارد؟

يجمع عدد من التونسيين على ان الاقتصاد التونسي يواجه الأزمات

شتى لكن ليس من بينها ازمة نجمت عن نقص الموارد أو ضعف الكفاءات، بل جلها نتاج خلل اصاب بنية العلاقة بين القطاعين العام والخاص بالاساس، فهذه العلاقة التي تحوّلت من علاقة تكامل وشراكة إلى علاقة استنزاف وتنافس عقيم.

واقع تكشفه جل التقارير المختصة التي كشفت عن معطيات تبين هذا الخلل، خاصة تلك التي صدرت عن البنك المركزي التونسي والتي تثبت ما حملته تقارير منظمات دولية مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ومجموعة البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وهو ان تونس تعاني من خلل حاد في توزيع الأدوار بين الدولة والسوق، ما يعوق النمو ويزيد من هشاشة الاقتصاد الوطني.

وهو ما تشير اليه بيانات البنك المركزي التونسي خاصة مؤشر الائتمان البنكي في تونس - وهو مجموع القروض المتاحة في السوق - اللذي يكشف عن ارتفاع تدريجي خلال السنوات الاربعة الأخيرة في حصة الدولة من المعروض المالي في السوق، كما حجم هذا الائتمان الذي تجاوز وفق معطيات البنك 100 مليار دينار في 2023، قد يبدو للوهة الاولى رقم ضخم الا انه للاسف ليس مؤشر ايجابيا ولا دليلا على قوة الاقتصاد التونسي.

فالرقم الضخم لحجم التمويل المعروض في السوق المالي المحلي، قد يحجب تفاصيل من بينها ان حصة الائتمان الموجه للقطاع الخاص(اي حصة التمويل المعروضة) تراجعت من حوالي 65% عام 2020 إلى نحو 61% عام 2023، مقابل ارتفعت حصة القطاع العام (الحكومة والمؤسسات العمومية) التي باتت تقترب من 40% ما يعني أن اكثر من ثلث الائتمان البنكي يُستخدم لتمويل الميزانية والنفقات العمومية.

هذه الحصة تعكس أزمة عميقة تتمثل في استنزاف السيولة المالية المتاحة، حيث توجه الموارد للبنوك لشراء سندات وأذون خزينة حكومية ذات عوائد مضمونة، بمتوسط اقتراض سنوي يتجاوز 9 مليار دينار، يؤدى تراكمها بالضرورة الى تقليص قدرة القطاع الخاص على الولوج لمصادر تمويل، والامر يتفاقم اكثر ان تعلق بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي تعاني للحصول على التمويل الضروري لبقاءها وليس للنمو والتطوير.

الضغط على موارد التمويل في السوق يؤدي ايضا إلى تراجع الاستثمار، لا فقط لارتفاع حصة الانفاق العمومي بل لان جزء من الحصة التي بقيت للخواص في السوق المالية هي تمويل الاستهلاك، وهو ما يشكل في النهاية صورة لخارطة الائتمان البنكي الذي يوجه للاستهلاك ولدعم العجز الحكومي بدلاً من دعم مشاريع إنتاجية تُساهم في خلق فرص عمل جديدة وتعزيز الابتكار.

وهو ما يجلعنا في حلقة مغلقة، تعمّق فيها الأزمة البنيوية في العلاقة بين القطاعين العام والخاص، إذ لا تمارس الدولة دورها كميسّر ومحفّز للنمو، بل تتحول إلى لاعب مهيمن يستنزف الموارد ويقيّد السوق، في حين يعاني القطاع الخاص من بيئة مالية ومؤسساتية غير مستقرة وغير محفزة. لنكون امام صورة يصبح فيها القطاع الخاص هو ممول الانفاق العمومي اللذي تمثل الاجور ونفقات الدعم الحصة الكبرى منه. اي بعبارات ابسط نحن ازاء عملية استنزاف للتمويل.

هذا واقع الاقتصاد التونسي الذي يتعارض مع اسس للاقتصاد ونظرياته، ففي العالم الطبيعي يمثل القطاع الخاص محرّك الاقتصاد، وذلك عبر ركيزتين هما الإنتاجية والاستثمار. في حين انه في واقعنا المعاش ورغم ان فالقطاع الخاص يستهلك نحو 78% من الناتج المحلي في شكل إنفاق استهلاكي، لكنه لا يسهم بأكثر من 16% في الاستثمار الوطني، اي ادنى بكثير من المتوسط العالمي في الاقتصاديات الناشئة والمقدر ب25 بالمئة، ، وفق مؤشرات OECD.

في المقابل، يواصل القطاع العام التوسع في الإنفاق الذي بلغ نحو 35% من الناتج المحلي، وهو مستوى يقارب معدلات بعض الدول الأوروبية، لكن هذا الإنفاق يذهب في معظمه إلى أجور ودعم غير موجه للاستثمار العمومي الفعّال، ما يولد عجزًا يتم تمويله عبر الدين الداخلي والخارجي، ويضغط على السيولة ويحد من قدرة القطاع البنكي على تمويل الاقتصاد الانتاجي.

هذه المعطيات المتعلقة فقط بعنصر التمويل كافية لتبين ان العلاقة بين القطاعين العام والخاص في تونس ليست علاقة شراكة أو تنافس صحي، بل هي علاقة مشوهة بين طرف حكومي يهيمن اليوم على السوق المالي وبين نخبة اقتصادية تسيطر بالاعتماد على حماية الدولة وامتيازاتها. وتفكيك هذه العلاقة واعادة صياغتها هو السبيل الوحيد اليوم لتحقيق تنمية مستدامة في تونس.

اذ يجب إعادة هيكلة العلاقة بين القطاعين من خلال تقليص هيمنة الدولة على التمويل البنكي عبر تحسين إدارة الدين العمومي وتقليص الاعتماد على التمويل الداخلي، لتحرير السيولة وتوفيرها للقطاع الخاص. وهي خطوة تظل منقوصة ان لم تلعب الدولة دورها كميسّر ومنظّم للحياة الاقتصادية وليس كفاعل اقتصادي لا يكتفي بالمنافسة بل يستنزف للموارد، وهو ما يقودنا الى ضرورة ان تضع الدولة سياسات عمومية تحفز الاستثمار وتضمن نزاهة التنافس عبر توفير مصادر تمويل عوضا عن استنزافها .

فتونس تواجه أزمة مالية واقتصادية مركبة، قد يكون الاصلاح الهيكلي لعلاقة القطاعين العام والخاص هو اول خطوة في طريق الانقاذ ومؤشرا على ان السلطة ادركت اهمية إعادة ترتيب الأولويات، وإعادة بناء علاقة متوازنة وفعالة بين الدولة والسوق، تقوم على الشراكة الحقيقية، والحوكمة الرشيدة، وضمان الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115