أزمة الأطباء الشبان: الحكومة واللاتفاوض الاجتماعي

في ظل تصاعد أزمة الاطباء الشبان والسلطة نشر رئيس منظمة الأطباء الشبان

يوم أمس تدوينة سرد فيها تفاصيل جلسة تفاوض جمعتهم بوفد حكومي ترأسه وزير الشؤون الاجتماعية. تفاصيل وان تظل محل تساؤل باعتبار اننا ازاء النصف المعلن من الراواية في انتظار صدور توضيح رسمي يكشف ما دار فعلًا في الاجتماع. الا انها تسمح باستقراء منهجية السلطة لتفاوض الاجتماعي اليوم في تونس وكيفية ادارتها لعلاقتها بالاجسام الوسطية.

تفاصيل الجلسة التي كشف عنها رئيس منظمة الاطباء الشبان اهميتها تكمن في انها اعلان صريح ورسمي من قبل جسم وسيط يمثل جزء من التونسيين يقدم لنا سياق عام بات يطبع علاقة الدولة بالمنظمات الاجتماعية والنقابية. فسواء تعلق الأمر بالأطباء الشبان، أو اتحاد الشغل، أو عمادة البياطرة، أو نقابة الصحفيين او غيرهم من منظمات ونقابات، تترئ خطوط كبرى لمنهجية السلطة في ادارة الملفات والمفاوضات، وطغيان مقاربة سلطوية تجعل من التفاوض اداة لتوجيه رسائل سياسية لا وسيلة لمعالجة الازمات واجتنابها.

فما يكشفه رئيس الاطبان الشبان وسبق وان المح اليه عدد من القائمين على منظمات ونقابات يبين ان جلسات التفاوض التي يُفترض أنها تُعقد لتخفيف الاحتقان وتقريب وجهات النظر بين السلطة والطرف الاجتماعي، باتت اليوم مفرغة من مضامينها، اذ باتت مسار تفاوضي لا تقدم فيه السلطة أجوبة واضحة، و جداول زمنية، والتزامات ، وهو ما يفقد المفاوضات جدواها وجديتها ويجعلها اقرب الى حوار شكلي من اجل إدارة الملف لا لحله.

ادارة تبحث من خلالها السلطة على كسب الوقت وعلى تراجع الطرف الاخر وعلى مزاج عام بات غير مهتم كثيرا، وهو ما تكرر في عدة ملفات جمعت بين الدولة ومنظمة او نقابة، اذ في جل هذه الملفات اخترات الدولة ان تفرض نسقها وزمنها وصمتها على الجميع، وفي بعض الحالات التي غادرة فيها الصمت لم تكن لتقديم تصوراها للحلول بل للتويح بالردع وتطبيق القانون.

اختيار القضاء بدل الحوار، قد يفهم منه ان السلطة توجه رسالة تحذير للنقابين والنشطاء بانها لن تتساهل مع انتقاد السياسات العمومية ولا مع اي تحركات احتجاجية قد تسلط عليها ضغطا اجتماعي. فتطبيق القانون الذي لجأت اليه السلطة في ادارة عدة ملفات انتقلت من ملفات اجتماعية مهنية الى ملفات قضائية، حيث فتح ابحاث وتحقيقات بل وتم ايقاف البعض واصدار احكام على اخرين، وهو ما ذكرت به تدوينة ذكار حينما اشار فيها الى انهم تلقوا تهديدات بالسجن، تهديد يبدو ان السلطة من خلاله تريد ان تذكر بحادثة إيقاف عميد الأطباء البياطرة على خلفية تصريحات إعلامية اعتبر فيها أن القطاع يشهد تدهورًا خطيرًا وذلك في خضم مفاوضات مهنية وقطاعية بين السلطة والعمادة.

هذا المنطق ليس معزولًا، بل يتكرر بوتيرة مقلقة. سواء مع نقابة الصحفيين او اتحاد الشغل الذي ليزال يلاحق الحكومة من اجل عقد جلسات تفاوض اجتماعي ولكنه يواجه باستبعاد من نقاشات محورية حول قوانين اجتماعية وخيارات تمس من حياة منخرطيه، ومثل المنظمتين الكثير ممن يواجهون اليوم منهجية عمل لم يعتادوها من قبل السلطة التي يبدو انها تفضل ان تتفاوض بمقاربة سلطوية تبرز فيها قوتها ونفوذها لا تصورتها وحلولها.

وهي مقاربة تشير إلى تحوّل عميق في طريقة الدولة في التعامل مع المفاوضات الاجتماعية، وكيف انها تخلت عن طرح الحلول على الطاولة، وعوضتها باستعراض رموز القوة والهيمنة، وتحب عن الانصياع عوضا عن الحوار، و تمرر تخليها عن تعهدتها ولتزامات بخطاب المحاسبة والمسائلة القضائية.

هذا التمشي الذي تكرر في مرات عدة ولكنه ظل متخفي كشفته تدوينة رئيس منظمة الاطباء الشبان، يفرض اليوم على جزء هام من التونسيين طرح سؤال اساسيا وهي هل ما زالت الدولة/السلطة التونسية تعتبر الفاعلين الاجتماعيين شركاء في إدارة الشأن العام؟ أم أنها تراهم مجرد اجسام وسطية يجب احتواؤها أو تحييدها؟

اذ ان معرفة الاجابة هنا مهمة، خاصة ان قدمتها السلطة بشكل واضح وصريح، فدون معرفة كيف تنظر السلطة لشركاءها الاجتماعيين لا يمكن ان نتحدث عن مفاوضات اجتماعية، فالمفاوضات ليست استعارض شكلي للقوة ولا ابراز للهيمنة او حوار دون اهداف وهي بالتاكيد ليست رفاهية، بل هي من اهم ركائز الاسقترار سواء السياسي او الاجتماعي وضمان السلم الاهلي.

فالتفاوض بين اي سكلة كانت واحد مكونات مجتمعها، هو مسار تبحث من خلاله هذه السلطة عن ابراز نوايها الايجابية تجاه الطرف الاخر سواء كان قطاع او فئة، وهو مناسبة لامتصاص الغضب وتعزيز الشعور بالانتماء وبناء جسور الثقة بينها وبين مجتمعها، وهو اطار لحل الخلافات ومعالجة المطالب، فان افرغ من كل هذه المضامين لصالح تحقيق نتائج خاصة من قبل السلطة فانه هنا يُغذّي الغضب بدل تهدئته، ويُعمّق الشعور بالإقصاء وهو ما يهدد السلم الاجتماعي.

سلم اجتماعي هو ما تحتاجه البلاد اليوم اكثر من حاجتها لخطاب حازم او استعراض للقوة، سلم لا يمكن ان يتحقق ان لم تفهم السلطة أن الاعتراف بالشركاء الاجتماعيين لا يُضعف الدولة، بل يقوّيها

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115