مبادرة أمريكية لهدنة في غزة: نهاية حرب أم خدعة جديدة ؟

يبدو أن حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة تدخل منعطفًا

حاسمًا مع الاقتراب من نهاية شهرها الحادي والعشرين، إذ لم تعد المعارك العسكرية والقتال وحدهما من يرسمان المشهد، بل باتت المفاوضات والصفقات الدبلوماسية حاضرة بقوة. في ظل تحرك الإدارة الأمريكية خطوة إلى الأمام لفتح مسارات تفاوضية جديدة قد تقود إلى نهاية الحرب، أو على الأقل إلى تهدئة.

فمنذ أن أعلنت إدارة ترامب عن اتفاق وقف التصعيد بين الاحتلال وإيران، تواترت التقارير حول مسار تفاوضي جديد يجري تنسيقه بشكل مكثف بين واشنطن، وقطر، ومصر، من أجل فرض تهدئة مؤقتة في غزة مدتها ستون يومًا. تتضمّن هذه الهدنة تبادلًا للأسرى، وإدخال مساعدات إنسانية تحت رقابة دولية، مع فتح باب التفاوض بين المقاومة والاحتلال لرسم معالم «اليوم التالي» لما بعد الحرب.

مسار كشف عنه الرئيس ترامب من أمستردام حين تحدث عن «نبأ سار» لأهالي غزة، ثم عاد ليعلن عن مهلة أسبوع للطرفين للتوصل إلى اتفاق هدنة، بينما توالت تحركات الوسطاء والوفود، بما يدل على أن هناك توافقاً دولياً وإقليمياً على ضرورة التهدئة وخفض التوتر في المنطقة ولو مؤقتًا، للحد من تداعيات إنسانية كارثية ومخاطر إقليمية متصاعدة.

هذه المبادرة ليست وليدة حرص إنساني على حياة الفلسطينيين، بل تبدو مدفوعة بمخاوف مركّبة من موجة ارتدادات سلبية على الاحتلال، وعلى استقرار المنطقة، بل وحتى على حكومات الغرب التي باتت تواجه تصدّعًا داخل تحالفاتها بسبب تباين المواقف من الحرب. مشاهد استهداف المدنيين، وقصف الطوابير السلمية للمحتاجين، والمجاعة التي تضرب شمال القطاع نتيجة الحصار الشامل، جعلت من استمرار الحرب عبئاً سياسيًا وأخلاقيًا يصعب تبريره حتى أمام أكثر الحلفاء صمتاً.

لكن ما يدفع واشنطن إلى التحرّك ليس فقط الضغط الخارجي، بل أيضًا ما تكشفه الميدان من مؤشرات تفيد بأن الاحتلال بات عاجزًا عن تحقيق أهدافه رغم تفوقه العسكري الهائل. فجيش الاحتلال وبعد واحد وعشرين شهرًا من القصف والاجتياحات، فشل في القضاء على حماس أو تفكيك بنيتها العسكرية، وتحوّل إلى جيش غارق في معارك استنزاف، يواجه كمائن محكمة، وتكتيكات مقاومة مرنة، وتكاليف بشرية وسياسية لا يستطيع تحملها طويلاً. في المقابل، لا تزال المقاومة تحتفظ بقدرة على إدارة الحرب، وبإمكانها الاستمرار لعدة أشهر اخرى وفق تقديرات الاحتلال نفس.

وهو ما قاد الى تصاعد الضغط الداخلي على الاحتلال بتوسع الحزام الداعم لعائلات الأسرى وارتفاع اصوات من يعتبرون ان الصفقة هي الطريق الوحيد لاستعادت اسراهم ، وهو ما يجعل استمرار الحرب تهديد مباشر لحياة الاسرى في غزة. ليكشف بذلك عن تحول في مزاج الرائ العام للمحتل، من دعم الحرب إلى التذمر من استمرارها، لم يأتِ من فراغ، بل من استنزاف طال الجيش والمجتمع والدولة، ووضع حكومة نتنياهو أمام اختبار وجودي. في الخارج، تتسع رقعة الإدانات، وتتراجع قدرة الحلفاء التقليديين على تبرير دعمهم لحرب باتت تُوصَف بوضوح في تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان كجريمة حرب مكتملة الأركان.

هذا الواقع هو ما دفع إدارة ترامب إلى إطلاق مبادرة هدنة تسعى من خلالها إلى إعادة رسم التوازنات، لا فقط وقف إطلاق النار. بل تهدف واشنطن إلى تحييد حماس من المشهد، وإقصائها عن إدارة قطاع غزة، وتهيئة بيئة إدارية وأمنية بديلة تُدار بغطاء عربي يضمن إعادة الإعمار بشروط سياسية مسبقة، ويحول دون عودة المقاومة إلى التمكين المالي والعسكري. ضمن ترتيب جديد ينص ضمنيًا على نزع سلاح المقاومة وتحويل غزة إلى كيان منزوع القوة، خاضع للرقابة الخارجية، ومفصول سياسيًا عن الضفة الغربية.

الغطاء العربي الذي يُراد له أن يُشكّل هذا الإطار الإداري والأمني يبدو ان من سيوفره دول عربية لا فقط تقبل بشروط نزع سلاح المقاومة بل تدافع عن هذا التصور باستماتة وتشترط تمويل إعادة الإعمار بتفكيك البنية العسكرية للمقاومة، وتحيدها عن ادارة القطاع وفسح المجال لعودة سلطة فلسطينية في غزة تمهيدًا لاستئناف مسار التطبيع مع الاحتلال. ويسوق ذلك على انه تحقيق لاهداف استراتيجية وهي ضمان تراجع نفوذ إيران في المنطقة، و تفكك ما يُعرف بـ»هلال المقاومة».

هذا الهلال الذي يبدو انه تضرر كثير ولم يعد صامدا فيه غير المقاومة، خاصة في غزة التي يراد اليوم عزلها وقطع خطوط الدعم الإقليمي عنها. وهو ما يعتقد البعض انه تحقق نسبيا اذ من وجهة نظرهم فإن المقاومة باتت معزولة، محاصرة، لا تملك سوى الانخراط في المسار المفروض أمريكياً، الذي يجعل من غزة كيانًا آمنًا للاحتلال بلا سلاح، ولا سيادة، ولا أفق وطني.مقابل مخرج امن لقادة المقاومة.

هذا السيناريو، رغم زخمه السياسي والدبلوماسي، لا يعدو أن يكون مجموعة من الأمنيات. فهو يغفل طبيعة المقاومة الفلسطينية بوصفها ليست مجرد تنظيم سياسي أو تشكيل عسكري، بل تعبيراً عن حالة حضارية وأخلاقية متجذرة في الوعي الجمعي الفلسطيني، قادرة على التجدد في كل مرة تُعتقد فيها نهايتها. كما أن ما تطرحه الإدارة الأمريكية لا يمثل حلاً، بل هو محاولة لتجميد الصراع مؤقتًا دون معالجة جذوره. إذ لا وجود في المبادرة لأي التزام او اعتراف بالحق الفلسطيني ولا تعهد بفتح مسار سياسي يقود الى حل الدولتين. لا صراحة ولا تلميحا.

وهو ما يكشف ان هذه المبادرة أشبه بمحاولة هندسة إقليمية جديدة، تتداخل فيها مشاريع إعادة الإعمار مع خرائط السيطرة، وتُذاب فيها القضية الفلسطينية داخل معادلات الأمن الإقليمي ومصالح التحالفات، دون أي اعتبار لحقوق الشعب الفلسطيني. وبينما تنشغل العواصم بالتسويات، تبقى غزة وحدها تصرخ، تقاوم، لاتخشى شيئًا، طلما ان اهلها امنوا بأن الحق في التحرر لا يخضع للمساومات

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115