ولو إلى حين وقد تتلوها «حرب» ديبلوماسية سيسعى فيها كل طرف إلى أقصى استفادة ممكنة من توازي الرعب النسبي الذي حصل لأول مرة بين دولة الاحتلال وأحد جيرانها.. من غير العرب..
لو عدنا إلى الفضاء الذهني العربي والتونسي الذي يتفاعل بصيغ مختلفة مع الصراع بين دولة الاحتلال ومحور المقاومة الفعلي بل والوحيد المتكون أساسا من التنظيمات الفلسطينية المحاربة وعلى رأسها حماس وحزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن وبعض التنظيمات في العراق وقبل ذلك بنسبة ما نظام بشار الأسد وعلى رأس القائمة إيران.
كل هذه التنظيمات والدول تثير مشاعر متناقضة في الذهن العربي فمن مفتخر ومعتز بها حدّ الهيام إلى من يعتبرها أخطر من الكيان الصهيوني ذاته وأن كل هذه الاذرع تعمل لفائدة المشروع الفارسي الصفوي أو حتى الماجوسي الذي يريد أن ينتقم من العرب لأن الرسالة الإسلامية نزلت فيهم... وبين هذين النقيضين نجد كل التنويعات والمسوحات الممكنة أحيانا ذات طابع ديني وأخرى سياسي دون نسيان مختلف الأصناف الممكنة لنظرية المؤامرة.
يبدو لجلّنا في تونس الخاصة ودول المغرب العربي عامة أن الصراع السني الشيعي ينتمي لعصر سحيق يعود للصراع السياسي ثم المذهبي ابان العقود الأولى للإسلام وأن الخلاف حول من كان الأجدر بخلافة النبي لم يعد ذي معنى اليوم..
ولكن الأمر على عكس هذا تماما في المشرق إذ لا يتعلق الصراع السني الشيعي بالماضي البعيد فقط بل بالماضي القريب وبالحاضر أيضا، ودون فهم عميق للأسباب التي أبدت هذا الصراع والتي تغيب أحيانا على أذهان المعنيين به اليوم قد يعسر علينا تجاوزه لا كخلاف مذهبي واقع بل كتراث من الجهل والحقد المتبادلين.
التشيع والتسنن ليسا مذهبان عقائديان فقط بل نظم سياسية وحروب وتوسع واضطهاد.. وتهميش وعداوات موروثة توظفها دول وامبراطوريات وفق المصالح الآنية المتحولة..
لقد نشأ التشيع تاريخيا في العراق حيث يشكل غالبية السكان وبقي إلى اليوم مذهبا أقليا في العالم الاسلامي يمثل زهاء عشر المسلمين جلّهم من الشيعة الاثني عشرية أو الامامية (إيران والعراق ولبنان) وبعضهم من الزيدية (الحوثيون في اليمن) وبقايا مهمة من الاسماعيلية (الفاطميون) وطوائفها المختلفة من نزارية (الحشاشون) وطيبية ومستعلية هذا بالاضافة إلى الفرق التي انشقت منذ القديم عن الشيعة الاثني عشرية كالعلويين (النصيرية هي التسمية القديمة) أو عن الاسماعيلية الفاطمية كالدروز (الموحدون) هذا دون الحديث عن الفرق المندثرة كالقرامطة وغيرها...
وكانت لمختلف هذه التيارات المذهبية في القديم دول وامارات بل وامبراطورية (الفاطميون) ولكن في العصور الحديثة تأسست أكبر وأهم دولة شيعية في العالم الإسلامي وهي الدولة الصفوية (1736-1501) والتي سيطرت لا فقط على إيران ولكن على مناطق شاسعة وقد امتدت في أوجها اضافة إلى إيران إلى اذربيدجان والبحيرن وجورجيا وبلاد الأرمن كما هيمنت على مناطق عدة في روسيا والعراق والكويت وافغانستان وأجزاء من تركيا وسوريا وباكستان..
اذن منذ بداية القرن السادس عشر كانت هنالك امبراطوريتان تتنافسان على العالم الإسلامي وخاصة في المشرق، الخلافة العثمانية السنية والدولة الصفوية الشيعية، وفي المشرق العربي كانت العراق هي الموطن الرئيسي لهذا الصراع سياسيا وعقائديا كذلك.
ويكفي أن نعرف أن بلادا كالعراق دوما قد ذاقت من ويلات انتصاب الوهابية على حدودها الجنوبية منذ نهايات القرن الثامن عشر بغارات دموية متتالية على المدن الشيعية المقدسة كالنجف وكربلاء خاصة..
فالصراع السني الشيعي ليس فقط صراعا مذهبيا بل هو كذلك تاريخ هيمنة وحروب متبادلة هذا فضلا عن السياسات الطائفية للسلطنة العثمانية وللدولة الصفوية وما تلاها ثم توظيف الاستعمار واذكائه لهويات متصارعة وأحيانا منغلقة وتواصل هذا الأمر مع كل نظم المنطقة والتي تضم شعوبها تنوعا طائفيا ودينيا وعرقيا..
هذا التاريخ وهذا الواقع المعقد أكثر بكثير مما وصفنا يفسر بنسبة هامة الاحتراز المتبادل ولِمَ رأت دول سنية - وعلى رأسها المملكة العربية السعودية - في الثورة الإسلامية في إيران نوعا من اذكاء صراعات الماضي في سياق ثوري جديد.
لا ضير مطلقا في التنوع أيا كان صنفه ولكن الصراع المذهبي ضار ومهلك وهو يستوجب جهودا كبيرة لتجاوز تراث الجهل والحقد المتبادل..
يضاف إلى كل ما ذكرنا المواقف المتناقضة مما يسمى اليوم بالإسلام السياسي أكان سنيا أم شيعيا، عربيا أم غير عربي، وهذا المعطى لا يؤثر فقط على دول ونخب ومواطني المشرق العربي بل وعلى نظرائهم في المغرب العربي أيضا..
فالإسلام السياسي عند البعض هو صنيعة امبريالية صهيونية لتدمير النظم العربية الوطنية وهو عند غيرهم التيار الأبرز في مقاومة الهيمنة الاستعمارية الغربية ثقافيا وسياسيا.
وعندما يختلط الإسلام السياسي بالتشيع مباشرة (إيران - حزب الله - الحوثيون..) أو بصفة غير مباشرة عندما تتحالف قوات إسلامية سنية (حماس.. الجهاد) مع الدولة الشيعية الأكبر تضطرب الموازين وتتعدد التموقعات فإما تحصل الشيطنة (تذكروا جيدا كيف وصفت الدول الخليجية منذ سنوات حزب الله، فهو حزب الشيطان عندهم) أو يعتبرهم آخرون في مصاف الأنبياء والصديقين..
لوقلنا بأن الإسلام السياسي يضم كل الحركات السياسية والفكرية والشخصيات التي ترى أن الإسلام ليس فقط ديانة تعبدية بل ايديولوجيا تنظم حياة الأفراد والمجتمع والدولة ان كل ذلك بنسب متفاوتة وبتصورات أحيانامتناقضة فنحن نتحدث هنا عن طيف واسع لا تخلو منه دولة عربية أو إسلامية واحدة وهو يشمل تيارات مزجت بين نوع من الانتماء الوطني والتوجه الإسلامي كحزب العدالة والتنمية في تركيا وبعضها متصالح مع النظم القائمة كحزب النور السلفي في مصر وبعضها ساهم في حكومات كحزب العدالة والتنمية في المغرب الأقصى والبعض الآخر يركز على العمل الثقافي والدعوي أما آخرون فقد اختاروا طريق الإرهاب السلفي الجهادي المعولم كالقاعدة وداعش والجماعات المتحالفة معهما كبوكو حرام والقاعدة بالمغرب الاسلامي.. وفيهم أيضا السلفي النصوصي المتشدد كالوهابية وطالبان في العالم السني واتباع نظرية ولاية الفقيه في العالم الشيعي وفيهم أيضا شخصيات فكرية منفتحة تسعى لتجديد الفكر الديني وإن كان جلّ هؤلاء المثقفين لا يقبلون بأن يقحموا داخل خانة الإسلام السياسي...
ولاشك أن الحركات الاخوانية هي الجسم الأكبر في الاسلام السياسي العربي ولكن تموقعاتها السياسية والاستراتيجية ليست واحدة وتقييمها للأوضاع الدولية مختلف أيضا فـ«حماس» الفلسطينية و«حمس» (حركة مجتمع السلم) الجزائرية تنتميان لتيار الاخوان المسلمين ولكن لا شيء يكاد يربط بينهما على مستوى التصور الاستراتيجي فواقعهما مختلف تماما وأهدافهما كذلك..
نحن اذن أمام طيف واسع من الحركات والتموقعات والأفكار والاستراتيجيات أنصارهم ينزهونهم عن كل خطإ وبعض خصومهم يرون أن لا حق لهم في الوجود، ومن بين هؤلاء من يريد محقهم في بلاده ولكنه ينتظر ظهور أبو عبيدة وكأنه المهدي المنتظر ويفرح لكل عملية تقوم بها كتائب القسام أو كتائب الأقصى..
لا شك أننا لسنا أمام تيار عادي، تيار الإسلام السياسي، وأن هنالك مخاطر جمة ترتبط بمكونات عدة فيه كالإرهاب السلفي الجهادي المعولم والذي أثخن في بلادنا كما في سائر البلاد العربية والاسلامية وهنالك أيضا مخاطر التطرف التكفيري والتسلطية الثيوقراطية والمساس من الحقوق والحريات الفردية والجماعية..
ولكن هل يوجد تيار فكري سياسي كبير واحد في عالمنا العربي خال من العيوب والمخاطر؟!
نحن لسنا بصدد المقارنة ولكن لا نعتقد في ثنائية الشياطين والملائكة.
كل التيارات الكبرى في العالم العربي من الاسلام السياسي الى القومية العربية الى الحركات اليسارية الى الأحزاب التي قادت حركات التحررالوطني الى التيارات الشعبوية الجديدة الى الحركة الديمقراطية والحقوقية أيضا. كل هذه التيارات وغيرها مدعوة إلى مراجعات عميقة من أجل تنظيم قواعد عيش مشترك تحمي الحقوق والحريات وتسمح بالتنوع والتعدد ولا تقصي إالا دعاة العنف والإرهاب فذلك هو شرط إمكان دولة الحق (L’Etat de droit') والديمقراطية التشاركية الادماجية..
ينبغي أن ندرك نهائيا أن حرب الابادة في غزة ليست متأتية من كون حماس حركة إسلامية بل من كونها حركة مقاومة وحرب الابادة حاصلة مهما كان العنوان الايديولوجي للمقاومة الفلسطينية..
الكيان المحتل لا يريد تحطيم حركة حماس فقط بل تحطيم كل امكانية المقاومة بالابادة والتجويع والتشريد والترحيل..
وحدها الأمم الأمم القوية يمكن أن تخترق طريقها في عام القوة الفجّة هذا، والقوة هنا تقاس أولا بقوة الجبهة الداخلية وبتقدم هذه الأمم علميا وتكنولوجيا واقتصاديا وبمناعتها الأمنية الداخلية والخارجية..
من «مزايا» الحرب الصهيو أمريكية على إيران تبيانها مدى تيهنا في الطريق وانشغالنا بصغائر الأمور