من دروس الحرب الصهيو أمريكية على إيران: II - صراع الحضارات وانهيار القيم الكونية

دول وشعوب كثيرة هي اليوم ضحايا القوة الفجّة والبلطجة الدولية

ونحن عندما نقول هذا فلا يعني خلو بعض هذه الشعوب والدول من النقائص والأخطاء والانحرافات وفي رأينا التنديد بغطرسة الكبار تستلزم حتما وضع الاصبع على أخطاء وانحرافات الضحايا فذلك هو شرط امكان الخروج من دوامة التبعية.

ولكن هنالك ضحية أخرى لهذه القوة الفجّة وهي الانهيار الاخلاقي لكامل المنظومات الأممية والقائمة كلها على فكرة جميلة وهي حقوق الانسان والشعوب باسم كونية هذه الحقوق وتعاليها على كل المحددات الخصوصية من حضارة ولغة وثقافة ودين وجنس وعرق ولون، فالبلطجة الصهيونية المدعومة أمريكيا والمحمية غربيا لا تكتفي بالقتل والتدمير والابادة والاعتداء على سيادة الدول بل تضرب في مقتل هذه الكونية والتي يدعي النظام العالمي الحالي أنه تأسس عليها.

إن ما يحكم العلاقات بين الدول هو موازين القوى فقط لا غير، والتنافس قائم بين دول العالم كلها ثم يكون التنافس في اطار التعاون بل والتماهي أحيانا وفي اطار الصراع وحتى العداوة أحيانا أخرى.

عندما نلاحظ مواطن التعاون والصراع في العالم خلال هذه العقود الأخيرة ونقف على كوامن الخطاب المهيمن عند هذه الدول المعنية لا يسعنا الا أن نقول أن صامويل هنتجتون في كتابه الشهير «صراع الحضارات» قد وصف بدقة هذه الدينامكيات المختلفة.

يكفي أن تصغي جيدا للخطاب المهيمن سياسيا واعلاميا في كبريات الدول الغربية أمام الحرب الروسية على أوكرانيا وحرب الابادة الصهيونية في غزة والعدوان الصهيو أمريكي على إيران والموقف من الصين ومن دول البريكس ومن الهجرة النظامية وغير النظامية يكفي أن نصغي جيدا فنرى أن الخطاب المهيمن في كبريات الدول الغربية يتحدث دوما عن التهديدات التي تحيط بـ «الغرب» وأنه على «الغرب» الدفاع عن مصالحه وعن قيمه وأنه هو الوحيد ممثل «القيم الكونية» و«الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» في وجه «البرابرة الجدد» والأمر لا يختلف في جوهره في روسيا والصين ودول أخرى عديدة فهي تعتبر نفسها مهددة «بالآخر» وأنها تدافع عن قيم وشرف ومصالح شعبها وهي تبحث عن التحالف فيما بينها سواء بالاعتماد على التقارب الثقافي أو تلاقي المصالح أو بوجود عدو مشترك ينبغي التصدي له.

هذا لا يعني بالطبع أن الأفراد والتيارات الفكرية والمجموعات السياسية محكومة كلها بمنطق هذا الصراع، بالطبع لا ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك ولكن منطق الدول بمعناه العميق، أي آلة الحكم والنخب المهيمنة معا، يتأسس وبقوة على هذا التضاد الحضاري وحتى التنافس والاختلاف أحيانا الحاد داخل المعسكر الغربي بين الولايات المتحدة وبعض كبريات الدول الأوروبية لا يخرج بدوره عن هذا المنطق فأمريكا - زعيمة العالم الحرّ سابقا - تعتبر نفسها زعيمة الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وهي تتعاون مع الدول الغربية الأخرى ولكن من موقع تبعية هذه الأخيرة لا نديتها.

الاشكال هنا أن «الغرب» يعتبر أنه هو الذي اكتشف الكونية ومبادئ حقوق الإنسان ودولة القانون والديمقراطية بفضل فلاسفة عصر الأنوار والعقد الاجتماعي وأنه الحضارة الوحيدة التي استبطنت هذه القيم الجديدة إلى حدّ االتماهي المطلق فالغرب هو القيم الكونية والقيم الكونية هي الغرب وبعد أن كان الاستعمار الأوروبي في بداياته الأولى منذ القرن الخامس عشر مع امبراطوريتي البرتغال واسبانيا يدعي التبشير بالمسيحية بمباركة من الكنيسة عند الأقوام «الهمّج» بما سمح له بالاستلاء على الأراضي والخيرات واستعباد أهاليها وأحيانا ابادتهم أضحى هذا الاستعمار «مهمة تمدينية» «mission civilisatrice» للشعوب «المتوحشة» باسم الأنوار ومبادئها وهنا حصل الاستلاء السلطوي على مفاهيم نبيلة فالانسان الفرد مصدر كل الحقوق والقيم ليس هو الانسان باطلاق بل هو الانسان الغربي الابيض (كل الشعوب الأخرى بما فيها من يعتبر نفسه أبيض البشرة كانت تعد ضمن الشعوب «الملونة» «les gens de couleur» أو توصف بأوصاف أخرى كالسامي أو العرب أو غيرها وهي لا تدخل في دائرة «الإنسان الأبيض».

هذه هي الخطيئة الأصلية للغرب الحديث: السطو على فكرة الانسان الفرد الممثل الشكلي لوحدة الجنس البشري وتعويضها بانسان الغرب (مع الاحتفاظ بتسمية الانسان الفرد للتمويه) الذي يحق له الهيمنة وقيادة واستغلال بقية أفراد وشعوب الجنس البشري.

ولكن هل يلزم من كل هذا التخلي على فكرة الكونية أي في النهاية على فكرة وحدة الجنس البشري والمساواة التامة بين كل الأفراد والجماعات والشعوب؟

ينبغي الاقرار هنا بأن هذا التخلي هو حلم كل الدكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية في الجنوب الكلي حتى تستريح من المطالب الديمقراطية كالحريات والحقوق والمشاركة السياسية والاجتماعية، كما أن هذا التخلي سيمزق الوحدة المطلوبة بين كل مناهضي الظلم والاستعمار في العالم.

فصراع الحضارات رغم كونه يوصف بدقة عالية واقع العلاقات الدولية اليوم ويضاف إليه السطو الغربي على فكرة الانسان الفرد لتبرير هيمنته على بقية العالم ولكن صراع الحضارات كقيمة معيارية مؤذن بدوره بخراب الفكرة الانسانية أصلا.

إن مقاومة عالم القوة الفجّة والبلطجة الدولية يقتضي على مستوى الفكر تحرير مفهوم الكونية وكل المفاهيم المنبثقة عنه من الخصوصية الغربية ومن أية خصوصية أخرى وجعله سيرورة تنتجها البشرية من مواقعها الثقافية والحضارية المختلفة فالكونية نتوق إليها جميعا وليس غنيمة في يد امبراطورية ما.

لقد فقدت القوى المهيمنة في الغرب أهليتها لبناء هذا الأفق الانساني وكذا العديد من القوى المهيمنة في الجنوب الكلي.

لو نظرنا إلى العالم بعقل بارد لقلنا بأن العصر اليوم هو عصر القوة، قوة ناعمة عند البعض وقوة غاشمة إلى حدّ البلطجة عند البعض الآخر.. والأفق الطبيعي المنظور هو المزيد من القوة والمزيد من العربدة، ولكن يبقى الحق وتبقى الحرية بوصلة كل من يرنو لعالم جديد، عالم مازالت شروط ميلاده لم تنبجس بعد

(يتبع)

غدا: السنة والشيعة والإسلام السياسي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115