من يُقنع العالم بعدالة القضية التي قامت من اجلها، ويحدّد من هو المعتدي ومن هو الضحية. لذلك، فمعركة السرد دائما جزء أصيل من الحروب، منذ أن بدأ الإنسان تدوين تاريخه. فالنصر لا يُقاس فقط بقوة السلاح والعدة، بل بمدى السيطرة على الرواية. وهذا ما يسعى إليه الاحتلال اليوم، عبر حملة دعائية يهدف من خلالها إلى كسب النقاط في معركة الرموز والتأويلات.
لكن أصبح واضحًا أن الاحتلال، الذي أبدع خلال العقود الثلاثة الماضية في هندسة السرد والتحكم المطلق فيه، خاصة في الغرب، وبنى لنفسه خطاب مظلومية نجح في استدرار دعم واسع في كل مرة، بفضل شبكة معقدة من النفوذ الإعلامي والسياسي والدبلوماسي، لم يعد اليوم يمتلك نفس القوة في فرض روايته.
فمنذ بداية حرب الإبادة على غزة قبل عشرين شهرًا، خسر الاحتلال زمام الخطاب، ولم يعد رغم كل ما يملكه من أدوات، ومن دعم غربي رسمي وإعلامي، قادرًا على تأطير الأحداث بما يخدم صورته كضحية، أو تسويق مجازره كـ»حرب على الإرهاب». فمحاولاته المستمرة لتحويل المستوطنات إلى «مدن آمنة تتعرض للعدوان»، وسعيه إلى تقديم حربه على غزة باعتبارها حربًا دفاعية، لم تعد تلقى التصديق نفسه.
لقد وظّف الاحتلال آلة إعلامية عالمية هائلة لبناء سردية تقوم على أنه محاصر، مهدد وجوديًا، يعيش في قلب محيط معادٍ يتوعده بالتدمير، وهو ما يستوجب من الغرب، الذي يطارده عبء المحرقة، أن يدعمه دون شروط.
سردية طالما نجحت في تعبئة العواصم الغربية ومنع أية مساءلة أخلاقية أو قانونية له. لكنها اليوم لم تعد تمرّ بسلاسة، ولا تجد نفس الصدى لدى شرائح واسعة من الرأي العام.
ففي مقابل هذه الرواية، هناك سردية مضادة تنبع من الواقع المقاوم، من بين الأنقاض، عبر شاشات الهواتف، وبث مباشر لحرب إبادة موثقة بالصوت والصورة، تنقل جرائم الحرب والقتل الجماعي على نحو لا يسمح بالطمس. لم تعد الرواية تُصنع فقط في غرف الأخبار، بل باتت تُبث من الشوارع، فلقد غيّرت المنصات معادلة السرد، وفككت احتكار الاحتلال لانتاج المعنى، كما ان الذاكرة الرقمية جماعية وفرت ضمانات بعدم نسيان ما يحدث، وهو ما يساهم في بلورة رأي عام عالمي بات يسائل جوهر خطاب الاحتلال بسؤال هو التالي: هل يحق لمن يرتكب الإبادة أن يطلب التعاطف؟
هذا التساؤل بحد ذاته يسقط سردية المظلومية التي اعتمدها الاحتلال. وينزع عنه كل قناع، ويعرى الخطاب من مبرراته. هنا، تصبح محاولة الاحتلال تقديم نفسه كطرف محاصر يخوض معركة وجود، مجرد ذريعة وتبريرا للجرائم، وتحصين سياساته من المحاسبة، وفرض تأويل قانوني يُفرغ القانون الدولي من مضمونه.
لقد انكسرت هذه الحلقة. فسيطرة الاحتلال على السرد تآكلت، ولم تعد قادرة على الصمود خارج دوائر النفوذ الإعلامي والسياسي التقليدي. فخارج هذه الدوائر، تتفكك الرواية التي اقتات عليها طويلًا، ليجد نفسه أمام سردية أخرى لا يملك أدوات قمعها. سردية تسمي الأشياء بأسمائها: احتلال يُقال له احتلال، مجازر تُسمى مجازر، ومقاومة تُفهم كسياق تحرري. لم تعد تعبيرات مثل «الدفاع عن النفس» ولا «الديمقراطية الوحيدة» يمكنها ان تبرر جرائم الحرب والاعتداء والافلات من المحاسبة والعقاب
في هذا السياق، تأتي حرب السرديات بين إيران والاحتلال لتشكّل لحظة فاصلة. فالاحتلال ي، يسعى جاهدًا لاستعادة زمام المبادرة ومنع تشكل روايات بديلة تهدّد شرعيته الأخلاقية. لكنه يصطدم بحقيقة أن زمن السرد من فوق قد ولّى، وأن الحكاية باتت تُكتب من تحت، على يد الضحايا.
هذا ما يفسر سرعة سقوط محاولة الاحتلال استثمار الضربة الإيرانية الأخيرة، التي أصابت مستشفى صباح أمس، في ترويج نفسه مجددًا كضحية. ورغم تبني بعض وسائل الإعلام الغربية لهذه السردية، إلا أن التفاعل الشعبي كان عكسيًا، وظهرت على المنصات مقارنات واسعة بين ممارسات الاحتلال في غزة وادعائه الحالي بالمظلومية.
لقد أصبح من الواضح أن ما يجري اليوم هو صراع على القصة، على امتلاك الرواية، لأن من يملكها يملك القدرة على الحشد، على الإقناع، على التأثير. ورغم تفوق الاحتلال في القوة، إلا أنه يخسر هذه المعركة تدريجيًا. ففي الفضاء الرقمي، لم تعد دموعه تثير التعاطف، ولم تعد قصته المُفبركة تُصدَّق كما كانت، ولم يعد بوسعه أداء دور الضحية.
هذه الحقيقة تُقلقه أكثر من الصواريخ والعمليات النوعية. ما يُخيفه فعلًا هو الانكشاف الأخلاقي المتسارع أمام جمهور عالمي بات يراه كيانًا استعماريًا عدوانيًا لا كضحية مهددة.
ومع تآكل مفعول خطاب المظلومية، يسعى الاحتلال إلى إعادة إنتاجه، باحثًا عن منفذ لإقناع الجمهور الغربي بأن مظلوميته المزعومة ما تزال تستحق التضامن، متكئًا على إرث المحرقة الذي لطالما وفر له الحماية الرمزية. لكنه يغفل أن هذا الإرث نفسه تآكل، وخفت بريقه أمام مشاهد الموت الجماعي، ودمار غزة غير المسبوق، والحصار الخانق.
لم يعد خطاب المظلومية يُنتج التعاطف الأخلاقي المطلوب، بل أضحى، بتكراره، أداة انكشاف. ففي زمن الحقيقة الرقمية، تنهار المسافة بين الضحية الحقيقية ومن يدّعيها. ولم يعد بالإمكان إقناع الجمهور الغربي بأن ما تقوم به آلة الاحتلال هو دفاع مشروع. بل المفارقة أن من يصنع الموت ويقصف المدنيين ويحاصرهم، هو نفسه من يطلب الشفقة.
ورغم استمرار دعم العواصم الغربية للاحتلال بدافع المصالح الأمنية والاستراتيجية، إلا أن قدرتها على منع التآكل المتزايد في شرعيته تتراجع. فالرأي العام هناك بدأ يتغير. في الجامعات، في النقابات، في وسائل الإعلام البديلة، وفي أوساط الشباب والمثقفين، تتسع دوائر الرفض، وتتزايد الأصوات التي تفضح ازدواجية المعايير: حيث تُحتفى مقاومة أوكرانيا، وتُجرّم مقاومة فلسطين. حيث يُرفع الضحايا هناك، ويُنكَر وجودهم هنا.
وهذه الفجوة الأخلاقية لا تُحرج الاحتلال وحده، بل الغرب الذي يوفّر له الغطاء. واليوم، يبدو الاحتلال أكثر عزلة أخلاقية من أي وقت مضى. صحيح أنه لا يزال يملك شبكات نفوذ قوية، لكن قدرته على احتكار الرواية تضعف، وصورته كضحية تنهار. ولعل ما يُرعبه أكثر من السلاح، هو فقدانه لما تبقى من شرعية في أعين العالم