المواجهات العسكرية بين إيران والاحتلال: الجنوب الكلي وصراع الشرعيات

كشفت المواجهة العسكرية المباشرة بين إيران والاحتلال أن المنطقة

والعالم أمام لحظة هامة ومحورية في ديناميكيات المشاريع الإقليمية والصراعات بينها، لا فقط بوصفها حدثًا عسكريًا، بل لكونها لحظة كاشفة لإعادة توزيع القوة وتغيير قواعد الاشتباك في الشرق الأوسط، وللاصطفاف الدولي. إذ إن هذه المواجهات العسكرية بين فاعلين إقليميين مركزيين، يمثل كل منهما تحالفًا دوليًا معلنًا وخفيًا، يتصارعان اليوم بالوكالة وبشكل غير مباشر في ظل اختلال للتوازنات الدولية وسقوط مفاهيم وتصورات حول الأمن وأشكال الردع الممكنة.

مواجهة جرت القوى الكبرى الغربية والدولية إلى أن تكشف عن تموقعها من طرفي الصراع، لتكون جزءًا من تحول أعمق يبدو أنه، وإن كان في بدايته، فإن أقطابه قد برزت: غربٌ، وإن انقسم في كيفية إدارة الأزمة، إلا أنه يدعم الاحتلال ويسوّق لحقه في الدفاع عن النفس، مقابل جنوبٍ تتقدمه الصين، يقدّم اليوم سردية عالمية مغايرة لمركزية الغرب.

فالصين، التي دعت منذ بداية المواجهات العسكرية إلى وقف الأعمال العدائية واحترام سيادة الدول، كشفت أنها لم تنخرط في منطق الإدانة الأحادية الذي امتاز به الغرب، بل تذهب الصين أبعد من ذلك بتأكيدها على ضرورة احترام سيادة الدول، في تلميح مباشر إلى أنها تعتبر أن إيران هي التي تعرّضت إلى الاعتداء، لا فقط من خلال الهجوم العسكري، بل حتى من خلال الضغوط الغربية المتواصلة عليها. وهو ما يكشف أن بكين تعتبر التصعيد في المنطقة نتيجة لتراكم اختلالات استراتيجية في بنية الأمن الإقليمي، ومحاولة الاحتلال توسيع نطاق ردعه العسكري.

وهذا الموقف الصيني ليس حيادًا، بل هو تنزيل لاستراتيجية بكين الساعية إلى دفع النظام الدولي من أحادية القطب إلى تعدديته، وإنهاء الهيمنة الغربية التي تحتكر من خلالها القوى الغربية، الممثلة في مجموعة الدول السبع، تعريف الشرعية وتحديد من يمثل تهديدًا ومن يُمنح الحق ومن يُسحب منه.

الصين، ومعها قوى أخرى تشكل ما يمكن وصفه بمحور «الجنوب»، الذي اختار أن يقدم موقفه وفق ضوابط الدبلوماسية والتوازنات القائمة، كشفت بشكل مباشر أثناء ذلك عن مراجعة تدريجية لدور «الجنوب»، بهدف الانتقال به من موقع ردّ الفعل أو الحياد السلبي والمراقبة، إلى موقع إنتاج التصورات البديلة التي تُصاغ من خلالها مفاهيم دولية، من بينها الشرعية الدولية.

ويبرز ذلك في تفاصيل الموقف، ومنها رفض دول الجنوب تبني السردية الغربية التي تنطلق من أن للاحتلال الحق في الدفاع عن نفسه، وأن الرد الإيراني على استهدافه غير مشروع. وإن لم تذهب هذه الدول إلى إعلان الدعم المباشر لإيران، فإن هذا الرفض بحد ذاته مهم، باعتباره يسحب من الغرب والتحالف الذي يمثله صلاحية تحديد «من يملك حق الرد»، وهي صلاحية وظّفتها القوى الغربية في النظام الدولي في مناسبات متكررة لإعادة تشكيل المشهد الدولي.

موقف الجنوب، وإن لم يعلن دعمًا كليًا لإيران، إلا أنه يكشف بشكل غير مباشر عن تغير في المعادلة الدولية والإقليمية، خاصة في ظل انقسام تكتيكي غربي لم يرتقِ بعد إلى انقسام استراتيجي. هذا الانقسام يبرز اليوم في تباين مواقف القوى الغربية الممثلة في مجموعة السبع، التي لا تزال - إلى حدود كتابة هذا المقال - تواجه معضلة رفض الرئيس الأمريكي توقيع البيان الختامي، وذلك لأنه يتضمن دعوات إلى خفض التصعيد في المنطقة.

هذا الموقف الأمريكي، الذي يصطدم مع موقف أوروبي تمثّله فرنسا وألمانيا، اللتان تدعوان إلى خفض التصعيد مع تبني سردية الاحتلال والدفاع عن حقه في الدفاع عن نفسه، ورفض امتلاك إيران أية تكنولوجيات نووية، لا يكشف عن أن الغرب غيّر من استراتيجيته أو من مقومات مشروعه الإقليمي الذي يمثله الاحتلال، بل هو اختلاف في التفاصيل بين رؤية تدفع إلى التهدئة واعتماد الدبلوماسية في تحقيق الأهداف النهائية، وبين تصور أمريكي يدفع في اتجاه مزيد من الضغط على إيران، التي هددها بأنها لن تنتصر في المواجهة، بل وأعلن عن إعادة نشر قطعه الحربية لتسليط الضغط عليها.

إذ أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن نقل المدمّرة «توماس هانتر» إلى شرق المتوسط، وهو ما اعتُبر رسالة ردع موجهة إلى طهران، التي يُنظر إليها على أنها هي «مصدر التهديد»، وليس الاحتلال الذي يُقدَّم إعلاميًا على أنه في موقع «الدفاع عن النفس». وهو تبسيط لا يقتصر على المستوى السياسي، بل يمتد إلى الخطاب الإعلامي والقانوني.

هذه الحركية في المشهد الدولي والإقليمي، التي تكشفها خطابات قادة الدول الكبرى أو القوى الصاعدة، تكشف أن المواجهة تجاوزت حدود العمليات العسكرية الإقليمية، وباتت اليوم لحظة اختبار سياسي للنظام الدولي، تفتح أبوابًا لتشكّل عالم ما بعد القطب الواحد، يُعاد فيه صياغة المعادلات والمفاهيم المهيمنة، وتُختبر فيه القدرة على إنتاج توازن.

إذ إن ما يبدو اليوم كصراع إقليمي، هو في جوهره صراع دولي حول تعريف ما هو «مشروع»، وما هو «ممنوع»، ومن له حق استخدام القوة، ومن يُجَرَّد منه. وكل صوت اليوم يواجه هيمنة الغرب واحتكاره للمعنى، ليس مجرد موقف دبلوماسي، بل هو تحدٍّ قد يتطوّر في القادم إلى ما هو أكثر من ذلك

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115