التصعيد العسكري بين إيران والاحتلال: هل نحن أمام حرب مفتوحة ؟

في ظل التصعيد العسكري المتسارع بين إيران والاحتلال يطفو على السطح

سؤال جوهري: هل نحن بصدد حرب شاملة تُعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون حلقة جديدة في صراع مزمن يتجدد بأشكال مختلفة وأدوات متغيرة دون أن يخرج عن نطاق السيطرة الكاملة؟

هذا السؤال يشغل اليوم الجميع، سواء القائمين على صنع القرار في العواصم العربية والغربية أو المتابعين لمجريات الأحداث، حيث يراقب الجميع التطورات في جو يسوده الارتباك والتوجس، الذي يتغذى من الكثير من التحليلات الرائجة والتي تنزلق إلى فخ غياب المعطيات الدقيقة، ونقصها في أفضل الأحوال. فعوضًا عن ذلك، تخرج استنتاجات متسرعة تُضخّم من حجم الحدث، وتُقدّمه كنقطة تحوّل كبرى، إما باعتباره مقدمة لحرب واسعة النطاق، أو كضربة قاضية لقدرات إيران العسكرية والنووية، وربما حتى نظامها السياسي.

هذه القراءات غالبًا ما تنطلق من تجزئة الواقع، وفصل الأحداث عن سياقاتها، ثم إعادة تركيبها بشكل انتقائي يخدم فرضيات مسبقة لا تُعبر عن تعقيد اللحظة. فهي تخلق صورة مبسطة ومشوّهة عن مشهد متداخل ومركّب، يحتاج إلى مقاربة أكثر دقة، تقوم على فهم متوازن للتطورات العسكرية والدبلوماسية ضمن سياقها الإقليمي والدولي العام.

إن هذا النوع من القراءة المتأنية هو ما يتيح لنا رسم صورة أوضح لما يحدث، وبالتالي تحديد الفرضيات الممكنة لما هو قادم بعد هذا التصعيد العسكري، الذي رغم حدّته، لم يصل بعد إلى نقطة الحرب المفتوحة، وبقي محصورًا في إطار عمليات عسكرية. وإن تم تقديمها عبر الخطاب الرسمي على أنها عمليات نوعية واستثنائية، إلا أنها تظل دون «نقطة اللاعودة»، التي تعني فعليًا اندلاع حرب شاملة قد تجرّ منطقة الشرق الأوسط بأسرها إلى مواجهات مفتوحة.

من هذه القراءات الخاطئة وما يُسوّق له في الغرب، حيث توضع فرضيات تقول بأن التصعيد قد ينتهي بانهيار النظام الإيراني أو بتفكيك بنيته النووية بالكامل، ما يتيح للاحتلال ترسيخ صورته كقوة إقليمية مهيمنة. لكن مثل هذه التقديرات لا تعكس الواقع بقدر ما تُعبّر عن رغبات سياسية واستراتيجية كامنة، تحوّل الرغبة إلى قراءة، وتُقدّم الاحتمال كأنه نتيجة حتمية.

هذه التقديرات التي سادت في الساعات الأولى من التصعيد، سرعان ما بدأت بالتآكل، لا لأن إيران حققت انتصارًا حاسمًا كما يروّج البعض في الضفة المقابلة، بل لأن الوقائع بدأت تفرغ ادعاءات الاحتلال من مضمونها، وخاصة ما يتعلق بما سُوّق على أنه «ضربة قاصمة» للبنية النووية الإيرانية.

فدعاية الاحتلال بأن الهجوم الجوي قد ألحق أضرارًا كبيرة بالمنشآت النووية الإيرانية وأعاق البرنامج بشكل دائم، يفتقر إلى أدلة دامغة، بل يتجاهل طبيعة المشروع النووي الإيراني نفسه، الذي يتوزع على جغرافيا واسعة داخل البلاد، وتتم حماية أجزاء حيوية منه في عمق الأرض أو داخل منشآت محصّنة بشدة مثل فوردو ونطنز، وهي مواقع يصعب تدميرها حتى باستخدام الأسلحة عالية الدقة.

وحتى اللحظة، لم تُصدر الوكالة الدولية للطاقة الذرية أي بيانات تؤكّد حدوث أضرار جوهرية في البنية النووية الإيرانية، كما أن التصريحات الرسمية من الطرفين لا تزال غامضة، تُبقي الاحتمالات مفتوحة وتترك الباب مواربًا أمام روايات متناقضة.

أما الزعم بانهيار قدرة إيران على الرد، وغياب خياراتها العسكرية، فهو الآخر لم يصمد طويلًا. فبعد ساعات من الارتباك الظاهر في الأداء الإيراني في اليوم الأول بعد استهداف كبار قادتها العسكريين، عادت طهران لتُظهر قدرة على الرد المدروس. القصف المباشر الذي استهدف تل أبيب ومناطق حساسة في العمق المحتل لم يكن مجرد رد استعراضي، بل حمل رسائل استراتيجية، أولها أن إيران لم تعد تعتمد بالكامل على أدواتها غير المباشرة أو على «الوكلاء»، بل باتت مستعدة لتبنّي الرد العسكري المباشر.

هذا التحول في معادلة الردع الإيراني لا يعني بالضرورة أن طهران تسير نحو مواجهة مفتوحة، بل إنها تسعى لإعادة تعريف قواعد الاشتباك، من خلال ممارسة تصعيد محسوب لا ينزلق إلى الحرب الشاملة، لكنه في الآن ذاته يرسّخ قدرتها على إيلام الخصم متى شاءت، ما يعزز من موقعها في أي مفاوضات قادمة. وهنا تبرز أهمية السردية الإيرانية التي تصرّ على توصيف الاحتلال كمبادر بالتصعيد، في محاولة لتثبيت معادلة تتيح لها الرد دون فقدان شرعية «الدفاع عن النفس»، وبالتالي كسب نقاط قوة إضافية في أي تسوية محتملة.

وهو ما يسقط القراءات التي سارعت إلى الترويج لفكرة اندلاع حرب إقليمية شاملة أو لانتصار الاحتلال المبكر، وتتغافل عن السياقات الأوسع، أو تسيء تبويبها، خاصة المواقف الصادرة عن العواصم الغربية الثلاث الكبرى: واشنطن، باريس، وبرلين. هذه العواصم، وإن أبدت استعدادًا معلنًا للدفاع عن الاحتلال، فإن مواقفها تبقى خاضعة لحسابات دقيقة تتعلق بميزان الضغط الداخلي، والرهانات الانتخابية، والكلفة الاقتصادية والعسكرية لأي تورط مباشر في النزاع.

فالإدارة الأمريكية، على سبيل المثال، ورغم خطابها المتشدد، تدفع باتجاه تهدئة موضعية تُعيد الإيرانيين إلى طاولة التفاوض بشروط جديدة، تُقيّد قدراتهم النووية دون أن تُدخل المنطقة في فوضى شاملة. ولعل تلميح الرئيس الأمريكي إلى إمكانية لعب روسيا دور الوسيط في هذه المرحلة الحساسة يكشف عن رغبة حقيقية في احتواء التصعيد لا في تأجيجه.

بناءً على ذلك، لا يمكن القول إننا أمام «نقطة تحوّل» تقود إلى حسم قريب، بل نحن إزاء مرحلة جديدة من صراع الاستنزاف المتبادل، حيث يسعى كل طرف لإضعاف خصمه دون الوصول إلى العتبة التي تعني الانفجار الكامل. الاحتلال، الذي بادر بالتصعيد ويُروّج لنصر عسكري حاسم، يواجه محدودية حقيقية في قدرته على التصدي للصواريخ الإيرانية، كما يواجه خطر استنزاف استراتيجي في حال تواصل التصعيد. أما إيران، ورغم التحديات الاقتصادية والسياسية الداخلية، فإنها تُدرك أن التفاوض من موقع ضعف سيكلّفها كثيرًا، ولذلك تعتمد الآن استراتيجية «التصعيد المدروس» لاستعادة التوازن.

في المحصلة، تبدو الصورة بعد الضربة الكبرى مشهدًا مفتوحًا على جميع الاحتمالات، لكنه محكوم ، حتى الآن ، بإرادة مزدوجة من الطرفين لتفادي الحرب الشاملة، عبر إعادة ترسيم خطوط الاشتباك ورفع كلفة أي تصعيد غير محسوب. ما يجري ليس إعلان انتصار لأحد، ولا بداية لانهيار آخر، بل هو استمرار لصراع تُدار تفاصيله بأعصاب باردة، وبأدوات معقدة، في ظل توازن هشّ ينهك الجميع.

حتى الآن ، بإرادة مزدوجة من الطرفين لتفادي الحرب الشاملة، عبر إعادة ترسيم خطوط الاشتباك ورفع كلفة أي تصعيد غير محسوب. ما يجري ليس إعلان انتصار لأحد، ولا بداية لانهيار آخر، بل هو استمرار لصراع تُدار تفاصيله بأعصاب باردة، وبأدوات معقدة، في ظل توازن هشّ ينهك الجميع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115