مناظرة الباكالوريا: وعد الجمهورية المعلّق

في المخيال الجمعي للتونسيين، تتجاوز مناظرة الباكالوريا وظيفتها

المجردة كامتحان وطني لنهاية مرحلة التعليم الثانوي، لتكون حدثًا رمزيًا كثيفًا يعبّر عن طبقات متعددة من التمثّلات الاجتماعية. تنتقل الباكالوريا من اختبار معرفي إلى بُعد طقوسي جماعي، يجسّد حلم الارتقاء في السلم الاجتماعي عبر الجدارة والتحصيل. فهي لا تُختبر فقط داخل الفصول الدراسية، بل تتشكل رمزيًا كعتبة فاصلة بين مرحلتين وبين موقع اجتماعي قائم وآخر محتمل، بين الانتماء إلى واقع معين والطموح إلى تجاوز حدوده.

لقد ورثت الباكالوريا هذه الكثافة الرمزية من مشروع الدولة الوطنية الذي تشكّل عقب الاستقلال، حين صاغت المدرسة والجامعة كمفاتيح للترقي والاندماج الاجتماعي. تم تقديم التعليم كأداة لإعادة توزيع الفرص، وصيغة لإعادة تشكيل بنية المجتمع على قاعدة رمزية جديدة وهي الجدارة والكفاءة، بدل الامتيازات الوراثية والعلاقات. وهكذا، تكرّس في الوعي العام أن النجاح في الباكالوريا هو شكل من الاعتراف، ومنحٌ للشرعية الاجتماعية، وتصريحٌ ضمني بإمكانية العبور إلى مجتمع يُكافئ المعرفة ويؤمن بالاستحقاق.

أي أن التعليم في المخيال الجمعي للتونسيين هو أداة للتحوّل الاجتماعي، ومجالًا راهن عليه الأفراد والدولة لصياغة مجتمع جديد يقوم على مبدأ الاستحقاق لا الامتيازات الوراثية. وكان يُنظر إلى الباكالوريا بوصفها تتويجًا لهذا المسار، وعنوانًا لشرعية رمزية تكرّس الجدارة وتمنح الحق في العبور إلى الجامعة أولًا، ثم إلى فضاء اجتماعي معترف بالكفاءة والإنجاز.

لقد تَشكّلت هذه الرمزية في إطار مشروع الدولة الوطنية، التي جعلت من المدرسة ثم من الجامعة محورًا أساسيًا في هندسة الاندماج الاجتماعي، وإعادة توزيع الفرص. وكان يُنظر إلى الباكالوريا بوصفها محطة مركيزة في هذا المسار، وعنوانًا لتكريس مبدأ الاستحقاق والكفاءة، ووسيلة لإعادة تشكيل البنية الطبقية على قاعدة رمزية جديدة، وهي الجدارة المدرسية. ولهذا، فقد تكرّس في المخيال الاجتماعي أنها ليست شهادة دراسية فحسب، بل تصريح رمزي بجدارة العبور، إلى الجامعة أولًا، ثم إلى المجتمع المعترف بالإنجاز والكفاءة.

لكن هذا البناء الرمزي تعرّض لتصدّعات بفعل تحولات اجتماعية واقتصادية عرفتها البلاد منذ 2000. إذ لم يعد النجاح في الباكالوريا يعني بالضرورة الدخول في مسار صاعد، بل أصبح بداية لسيرورة يمكنها ان تفضي إلى الإحباط أو البطالة المقنّعة، بعد ان طالت الازمة الجامعة نفسها، التي كانت تشكل السابق أفقًا معرفيًا واجتماعيًا وباب للمستقبل، أصبحت بدورها فضاءً متخمًا بالتناقضات وانفصال متزايد بين المعارف المُلقنة وحاجيات الواقع.

هذه الرمزية، ورغم استمرارها، تعيش اليوم حالة من التآكل والقلق. ناجمة عن تدهور جودة التعليم العمومي، وتفكك الجامعة كمؤسسة للمعنى والتأهيل، وتقلص أفق التشغيل، ولكن رغم ذلك لا تزال الأسر التونسية ترى في الباكالوريا لحظة خلاص محتملة. تستثمر فيها مواردها المادية والعاطفية والرمزية، لأنها تمثل في نظر الكثيرين فرصة لتحقيق شكل من أشكال الارتقاء الاجتماعي، ولو محدودًا. وهو ما يفسر استمرار الهالة المحيطة بهذا الامتحان، رغم الاختلاف اليوم بين خطاب تكافؤ الفرص والواقع الفعلي للتمدرس والتحصيل.

وهو ما يجعل من الباكالوريا لحظة مفارقات، فهي من جهة لحظة فرز واستحقاق، ومن جهة أخرى، مدخل إلى مسار لم يعد مضمون الجدوى أو المآل. وهذا التوتر بين المعنى والقيمة يعكس عمق الأزمة التي تعيشها الدولة التونسية والمجتمع معًا. والتي يمكن اختزالها بالقول ان وعد الجمهورية لم يتحقق بعد.

فالباكالوريا والتعليم من خلفها في تونس، يمثلان في الوجدان الجمعي مشروعا وامالا بالممكن واستمرار هذا التمثل يكشف ان رمزية البكالوريا تكشف عن مقاومة جماعية على امل ان يتحقق وعد دولة الاستقلال

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115