لاستعارتها لأدواتهــــا ومنهجيتها، بل لاشتراطها للموضوعية كشرط تقني وقيمة أساسية في تقديم النتائج، تُصبح الأرقام لغةً دقيقة لا تقبل التأويل العشوائي، بل تُطالب بمن يقرأها في سياقها، حتى لا تُحوَّل إلى أدوات تبرير أو تضليل. فعندما تُجتزأ الأرقام من سياقها، وتُغلف بخطاب انتقائي، تفقد حيادها، وتُستعمل كعناصر في سرديات سياسوية تصوغ المعنى بما يخدم المتكلم لا الواقع.
ويبدو أن مثالًا حيًّا على هذا التوظيف الانتقائي نجده في كيفية تعاطي جزء من التونسيين مع الإحصائيات والمؤشرات الاقتصادية الصادرة، سواء عن البنك المركزي أو المعهد الوطني للإحصاء أو ايّ من المؤسسات الرسمية. لنكون امام سرديات لا تقدم محاولة لفهم الواقع الاقتصادي، بل خطاب في خدمة احد السرديتين متناقضتين، أحدهما يروّج لصورة وردية عن تعافٍ اقتصادي، والآخر يرسم مشهدًا سوداويًا عن الانهيار. وهكذا تم التعامل مع الإعلان عن نسبة التضخم لشهر ماي الفارط، المقدّرة بـ5.4 ٪، التي وظفت اما كدليل على استعادة التوازن، او كمؤشر على ازمة الاقتصاد.
في ظاهر الأمر، توحي المعطيات الرسمية بأن الاقتصاد التونسي يعيش في انفراجة نسبية، تراجع في التضخم، استقرار نسبي في سعر صرف الدينار، وتحكّم حذر في السياسة النقدية. غير أن القراءة المتأنية تُظهر أن هذه المؤشرات، وإن كانت صحيحة إلا أنها لا تُشكّل دلالة قاطعة على التعافي، بل تخفي خلفها هشاشة بنيوية لا يمكن حجبها بتقديم مؤشرات ووضعها خارج اطارها.
فما لا تقوله الأرقام المعلنة هو أن انخفاض التضخم في تونس لا يُترجم بالضرورة إلى تحسّن في معيشة المواطن، بل يعكس في جزء كبير منه انكماشًا في الطلب الداخلي بفعل تدهور القدرة الشرائية وتراجع الاستهلاك، وهو ما يجعل من تراجع نسبة التضخم علامة على الركود، لا على التعافي.
وهو ما يعرف في علم الاقتصاد بـ«الركود التضخمي الكامن»، وهو وضع يتزامن فيه الانكماش مع استمرار الضغوط على الأسعار، وإن بوتيرة أبطأ. ويُفاقم من تعقيد هذا الوضع التراجع في نسبة النمو التي لم تتجاوز 1.6 ٪ خلال الثلاثي الأول من 2025، في مقابل 2.4 ٪ في الثلاثي السابق، وهو ما يشير إلى غياب ديناميكية اقتصادية فعلية قادرة على خلق الثروة وتوفير فرص العمل.
وحتى المؤشرات القطاعية التي تُقدَّم في بعض الأحيان كعلامات إيجابية -كتحسن الصناعات الغذائية أو استقرار بعض أنشطة البناء- تبقى محدودة الأثر، جزئية، وعاجزة عن تشكيل قاعدة صلبة لنمو مستدام. فهي بمثابة ومضات في مشهد ضبابي، سرعان ما تخفت أمام ضعف الاستثمار، وتردي بيئة الأعمال، وتعطّل الإصلاحات الهيكلية الجوهرية.
والخطر لا يكمن فقط في تدهور الأرقام، بل في طريقة تلقيها وتفسيرها. حين تتحول البيانات إلى أدوات دعائية، يفقد الخطاب الاقتصادي جديته، وتفقد السياسات فعاليتها وفي المقابل، فإن التهويل المفرط والقراءات الكارثية التي تفتقر إلى التمحيص، لا تقل ضررًا، لأنها تنزع الثقة وتغذي مناخ الإحباط والشك.
لذلك، فإن القراءة الجادة والموضوعية للمؤشرات الاقتصادية تقاس بقدرتها على شرح الواقع دون انحياز او انحراف، وبهدف فهم مكامن الخلل وتحديد كيفية الإصلاح، اذ دون إصلاح جذري وشامل، سيظل المشهد الاقتصادي التونسي حبيسًا بين تفاؤل وهمي وتشاؤم عقيم، وستظل الأرقام، مهما بدت دقيقة، عاجزة عن التعبير عن واقع يزداد تعقيدًا، وعن مواطن ينتظر ما هو أكثر من مؤشرات: ينتظر تغييرًا في المعنى ومعاشه، لا فقط في النسبة