بعد تلويح الأطباء الشبان بالإضراب: متى ننقذ منظومة الصحة العمومية؟

يبدو أنه لن يكون من الممكن اليوم أن نتعامل مع أزمة الأطباء الشبان في تونس

كملف نقابي أو كخلاف بشأن المنح والتربصات، بل نحن إزاء أزمة هيكلية تهدد ما بقي من توازن هش في منظومة الصحة العمومية. أزمة هي مزيج من نزيف مزمن للإطار الطبي ومن شح الإمكانيات ومحدوديتها.

هذه الأزمة، التي تعود جذورها إلى سنوات خلت، لا يمكن اختزالها في الخلاف بشأن نقاط مالية، وإن كان ذلك الخلاف، بشكل غير مباشر، يكشف عن أحد أضلع الأزمة، والمتمثل في سياسات التقشف التي فُرضت على مختلف القطاعات العمومية وأدّت إلى أن يهيمن التعاطي التقني مع الخدمات العمومية، ومنها الصحة، على أنها كلفة يجب تقليصها، في إطار ترشيد النفقات العمومية والتحكم في توازنات المالية.

وهو ما أفرز المشهد الراهن الذي تختزله أزمة الأطباء الشبان، وتكشف عنه مطالبهم، والتي يمكن اختزال نقطتين منها في القول بضرورة وضع حد للحيف في التأجير، سواء تعلق الأمر بسلم التأجير الخاص بالحصص الليلية أو بمنحة الخدمة المدنية، مع مراجعة أوقات العمل التي تبلغ 100 ساعة أسبوعيًا.

هذه الأزمة، التي لم يكن ليقع الانتباه لها من قبل الشارع التونسي لولا احتجاجات منظمة الأطباء الشبان وخطوتهم التصعيدية، بلغت اليوم حد التلويح بالإضراب العام لمدة 5 أيام، احتجاجًا على ما تصفه الجمعية بـ»الظروف المهنية المهينة»، التي تقابلها وزارة الإشراف، وفق تصريحات قادتها، بإعلان النوايا والوعود، دون أي التزام فعلي ولا برنامج محدد يضبط التكلفة والآجال.

فما تقترحه وزارة الإشراف على الأطباء الشبان في علاقة بمطالبهم، هو الاستجابة الفورية للمطلب الأكاديمي المتعلق بوضع معايير للمصادقة على التربصات، لكنها في ما يخص المطالب ذات التبعات المالية، تكتفي بإعلان نواياها الحسنة وسعيها إلى تحسين ظروف العمل والأجر، دون أي التزام صريح وواضح بآجال زمنية. والحجة هنا تتعلق بالإمكانيات المالية المحدودة للوزارة، وبضرورة التنسيق مع الحكومة قبل أي التزام مالي.

وتعذّر استجابة الوزارة للمطالب المالية، بمفرده، قادر على الكشف عن أن التطورات في ملف الأطباء الشبان هي من تبعات سياسة التقشف، التي اتخذت عنوان ترشيد الإنفاق وتوجيهه، وهو ما يجب أن يقع الانتباه إليه اليوم، لا فقط الانتباه إلى صرخة الأطباء الشبان التي لا يمكن النظر إليها على أنها صرخة قطاعية تدافع عن مطالب فئوية، بل هي صرخة عامة تحذر الجميع من مخاطر التعاطي مع المنظومات العمومية الاستراتيجية كالصحة والتعليم والنقل، على أنها نفقات يجب ضبطها والتحكم فيها بهدف تحقيق التوازن المالي.

فخلف التلويح بالإضراب العام لخمسة أيام في كل المنشآت والمرافق الصحية العمومية، الذي يلوح به الأطباء الشبان، يقع دق جرس الخطر، والتحذير بأن الاستمرار في النهج الحالي لمعالجة ملف الإطار الطبي قد يقود إلى انهيار وشيك للمنظومة الصحية بأكملها.

إذ تكشف جمعية الأطباء الشبان عن تزايد موجات الهجرة بشكل مقلق في صفوف الأطباء، قبل أسابيع من تخرجهم، ليقع تقديم رقم مفزع: من بين 1900 طبيب وطبيبة دفعة 2024/2025، هاجر 1600 من الأطباء الشبان، في حين أن السنة السابقة غادر 1500، وهو ما يعني أننا إزاء خطر فعلي بأن تشهد المستشفيات العمومية مرحلة حرجة، خاصة في الأقسام الحساسة كالجراحة، الإنعاش، وطب النساء والتوليد.

وهو ما يكشف عن موجة انسحاب كبيرة من المنظومة العمومية، تهدد بأن يتصاعد الضغط على بقية الإطار الطبي، وما يعنيه ذلك من ساعات عمل إضافية وظروف متردية، ينعكس أثرها المباشر على جودة الخدمات المقدّمة للمواطن.

كل هذا يحدث وسيستمر في الحدوث، ما لم ننتبه للصورة الشاملة ونسارع إلى معالجة الأوضاع ضمن تصور لا يقتصر على محاولات الترقيع وإطفاء الحرائق، بل تصور يبحث في معالجة الأزمة الهيكلية للقطاع برمّته، والانفتاح على مختلف الفاعلين فيه، وإشراكهم في وضع سياسة إنقاذ شاملة لمنظومة الصحة.

إن ملف الأطباء الشبان، بكل ما يختزنه من غضب واستنزاف، هو مرآة تعكس ما وصلت إليه الصحة العمومية من تآكل، وهو كذلك فرصة أخيرة للإنقاذ، من خلال إعادة هيكلة المنظومة جذريًا، بداية من شروط التكوين، إلى آليات التوزيع العادل للموارد، وصولًا إلى الاعتراف بالكرامة المهنية كشرط للاستقرار والنهوض.

ليس من المبالغة القول إن مستقبل الصحة العمومية في تونس اليوم يُرهن بمآل هذا الملف. فإما أن نعيد الاعتبار لرسالة الطب العمومي عبر إصلاح حقيقي، أو نترك المنظومة تنهار قطعةً قطعة، إلى أن يُصبح العلاج امتيازًا لا حقًا

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115