صورة ترسمها مؤشرات السكان والتعليم والصحة: تونس والتفاوت الصارخ بين الجهات

كشفت نتائج التعداد الاخير في تونس عن انقسام ترابي عميق يشكل صورة مزعجة لمستقبل البلاد

التي لا تعيش تحوّلاً ديمغرافيًا عميقًا فقط، بل هي بصدد مواجهة انقسام سكاني وتنموي حاد، ناتج عن تعدد السرعات داخل الدولة الواحدة التي يبرز فيها حجم التفاوت العميق بين الجهات.

المعطيات التي كشفها معهد الاحصاء وتعلقت اساسا بسكان تونس وتوزعهم الجغرافي والجندري، مع بعض المؤشرات الخاصة بنسب التمدرس والولوج الى الخدمات الصحية والاجتماعية، كشفت عن تفاوت صارخ بين جهات البلاد، حتى في «شيخوختها» حيث يبرز ثقل هذا التفاوت.

تفاوت رسمت له معطيات المعهد الوطني للاحصاء خارطة شاملة تقدم صورة مركبة ومعقدة، تؤثثها مؤشرات عامة تقدم صورةعن الخصوبة والتعليم والصحة ومتوسط العمر ونسب الأمية ونسب التمدرس وغيرها من المؤشرات التي تبين ان المجال/الجغرافي بات جزءا هاما في تحديد مستقبل التونسيين وفي مدى قدرتهم على البقاء.

وتكشف خارطة التفاوت الجهوي اليوم ان مقر اقامة الفرد في تونس بات عاملا حاسما في تحديد جودة الحياة وضمان اوفر فرص البقاء، وذلك ما يمكن تسميته بـ«اللامساواة المجالية»، أي تفاوت القدرة الاقتصادية والاجتماعية للافراد والمجتمعات المحلية في مواجهة واقعهم المعاشي وتحدياته في بلد لا تتوفر فيه نفس الحماية لجميع.

وقد تظهر أولى المؤشرات على هذا التفاوت في نسب الشيخوخة، فبينما يبلغ المعدل الوطني لمن تجاوزوا الستين عامًا 16.9 %، مع مؤشر الشيخوخة الوطني بـ 73.9 %، تبين الصورة الاشمل ان بعض الجهات الداخلية تسجّل نسبًا تتجاوز هذا المعدل بكثير.

على سبيل المثال ولاية الكاف حيث يصل مؤشر الشيخوخة إلى 110.3 %، وفي جندوبة إلى 105 %، وهذا لا يعني فقط أن هذه الجهات تشيخ أسرع من غيرها، بل إنها دون شبكة أمان مرافقة.

إن غياب البنية الصحية المتقدمة، ومحدودية التغطية الاجتماعية وندرة خدمات رعاية المسنين، تعني أن الشيخوخة في هذه المناطق عبء يومي.

و يتحول متوسط العمر بدوره إلى مؤشر صارخ على التمايز داخل الخارطة الوطنية. فبينما يبلغ المتوسط الوطني للامل في الحياة الى 35.5 سنة، يرتفع في تونس العاصمة إلى 39 سنة، بينما ينخفض إلى 33.5 سنة في تطاوين و32.5 سنة في القصرين. وهذا الفارق، حتى وإن بدا بسيطًا على الورق، يعكس تفاوتًا كبيرًا في التمتع بالرعاية الصحية وجودة الحياة والظروف البيئية والاجتماعية التي يعيش فيها الأفراد. إنه تذكير بأن الجغرافيا تصوغ الأجساد، وأن العمر البيولوجي ليس نتاجًا للزمن فقط، بل للسياسة أيضًا.

ولا يقتصر التفاوت على الفئات العمرية ومؤشرات الشيخوخة، بل هو ابعد من ذلك ويتجلى ذلك بوضوح في التعليم، حيث تشير المعطيات إلى أن نسبة الأميين في بعض الولايات الداخلية تتجاوز 20 %، مقابل أقل من 10 % في ولايات تونس الكبرى. أما نسبة الحاصلين على تعليم عالٍ، فهي أكثر من 25 % في العاصمة، لكنها لا تتجاوز 10.4 % في جندوبة، و8.6 % في القيروان. وتكشف هذه الفجوة عن اختلال عميق في تكافؤ الفرص، لا في التعليم فقط بل في إمكانية الالتحاق بسوق العمل والقدرة على التفاعل الاقتصادي وقدرة سكان هذه الجهات على الارتقاء الى الطبقات الوسطى

.كما تتجسد ذروة التفاوتات في نسب التمدرس. فالفارق بين نسب التمدرس في الفئة العمرية من 6 إلى 24 سنة بين إقليم الشمال الغربي وتونس الكبرى، يصل أحيانًا إلى أكثر من عشرين نقطة مائوية، خاصة في التعليم العالي.

إن الطفل الذي ينشأ في باجة أو في سليانة، لا يملك نفس الحظوظ في الوصول إلى الجامعة، كما هو حال قرينه في أريانة أو المنستير. هذا التفاوت في رأس المال التعليمي يتحول لاحقًا إلى تفاوت في الأجور وفي فرص الحياة، بل وفي متوسط الأمل في الحياة.

كل هذه المؤشرات المتداخلة تُفضي إلى نتيجة واحدة: أننا لا نعيش أزمة ديمغرافية فحسب، بل كذلك أزمة عدالة ترابية. وتفتقر تونس إلى رؤية شاملة لمعالجة هذه التفاوتات. لا يمكن لسياسات موحدة أن تحل معضلات غير موحدة كما لا يمكن الحديث عن «تحول ديمغرافي» دون فهم الاختلافات العميقة بين الجهات في القدرة على تحمل هذا التحول.

ما يبينه التعداد أن التفاوت الجهوي في تونس ليس تفاوتًا في الثروة أو الخدمات فقط، بل إنه تفاوت في البيولوجيا وفي متوسط العمر وفي فرص التعليم وفي الحظوظ للعيش الكريم بل وحتى في الطريقة التي نواجه بها الشيخوخة والمستقبل. وهذا ما يجعل من «اللامساواة المجالية» مفهومًا مفيدًا لفهم خطورة المرحلة: إنها الحالة التي لا يكون فيها التفاوت مجرد مسألة فقر أو تهميش، بل مسألة من يعيشون أكثر، ومن يعيشون أفضل.

أمام هذا الواقع، لا مفر من الاعتراف بأن العدالة الاجتماعية تمرّ اليوم، أكثر من أي وقت مضى، عبر العدالة الجغرافية. وأن بقاء الدولة كفكرة ومؤسسة، رهين قدرتها على ضمان الحد الأدنى من الحماية المتكافئة لأبنائها، أينما كانوا، وكيفما يعيشون.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115