كشفت عنها نتائج تعداد السكان: تونس والشيخوخة قبل النضج

هل يمكن لدولة أن تشيخ قبل أن تنضج؟ هذا هو السؤال الذي تطرحه نتائج التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2024.

تونس، وفق ما بينته الأرقام، ليست في طور التحوّل الديمغرافي فقط، بل أنها دخلت في مرحلة دقيقة من الثبات وربما الانكماش السكاني. هذا التحوّل لا يعكس مجرد خلل في التركيبة العمرية، بل يشكل أزمة بنيوية تمسّ من جوهر الدولة والمجتمع.

المعطى الأبرز، هو معدل النمو الديمغرافي الذي بلغ 0.87 %، وهو الأدنى في تاريخ البلاد المعاصر. هذا الرقم، يبين وحده، أننا غادرنا زمن الزيادة السكانية وسندخل في زمن التقلص البشري المحتمل، خاصة في ظل معدلات خصوبة لا تتجاوز 1.6 إلى 1.8، وهي دون نسبة الإحلال المقدرة بـ2.1، أي الحد الأدنى لتجدد الأجيال.

وقد تأكد هذا المنحى من خلال المعطيات التي كشفت عن تقلص قاعدة الفئة العمرية بين 0 و4 سنوات إلى 5.86 % فقط من إجمالي السكان، مما يعني، بلغة الأرقام الصامتة، أن تونس لا تواجه تباطؤ النمو فقط، بل احتمال بداية الانكماش الديمغرافي انطلاقًا من 2040، إذا ما استمرت المؤشرات الحالية على حالها.

وتقدّر الأمم المتحدة أن عدد السكان في تونس قد يبدأ فعليًا في الانخفاض بحلول هذا الأفق الزمني، وذلك بالتوازي مع شيخوخة متسارعة، تبرز من خلال المعطى المتعلق بمتوسط العمر، الذي بلغ اليوم 35.5 سنة، ويُتوقع أن يصل إلى 41 سنة في أفق 2040، اضافة الى نسبة من تجاوزوا سن الستين والتي تبلغ حاليًا حوالي 17 % ومن المنتظر أن ترتفع إلى 22 % في غضون 15 عامًا.

نحن إذن أمام تحوّل سكاني عميق، بتداعيات تتجاوز الأبعاد التقنية للديمغرافيا لتطال بنية الدولة ووظائفها. إن شيخوخة المجتمع تعني بشكل مباشر تقلص الفئة النشيطة ونقص اليد العاملة وارتفاع الضغط على منظومات التقاعد والرعاية الصحية وتراجع صافي قوة العمل. وذلك يتفاقم في ظل وجود بنية اقتصادية هشة ومنظومة اجتماعية منهكة، قد تحول دون قدرة البلاد على امتصاص هذه التحولات.

تاريخيًا، حين دخلت أوروبا الغربية في مراحل مشابهة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كانت قد استكملت بناء دول الرفاه، مما أتاح لها تخفيف أثر الشيخوخة عبر نظم تقاعد وصحة وتعليم قوية واعتماد سياسات عمومية تشجع على الانجاب والهجرة . أما في الحالة التونسية، فيأتي هذا التحول في سياق من عدم الاستقرار السياسي وتآكل الثقة في الدولة وتراجع الاستثمار العمومي في القطاعات الاجتماعية الأساسية.

في هذا السياق، تبرز خطورة ما سمّاه المؤرخ الديمغرافي إيمانويل تود بـ«الانفجار الصامت»، أي عم القدرة على التجدد الذاتي للسكان، مما يؤدي إلى فقدان المجتمعات لديناميكيتها التاريخية، وذلك لاسباب يشير اليها تود ويقدمها في صورة مكثفة تقول بأن المجتمعات لا تتوقف عن الإنجاب لأن قدراتها البيولوجية خفت، بل لأنها فقدت إيمانها بأن الحياة القادمة ستكون أفضل من الحاضرة. مما قد يعني، في تونس اليوم، التحول في المخيال الجمعي لمكانة الطفل، الذي لم يعد استثمارًا في المستقبل، بل عبئًا إضافيًا في واقع اقتصادي خانق دون أفق أو ضمانات.

هذا الانفصال الذي يشير اليه تود بين الطموح الفردي والمستقبل الجماعي لا يهدد النمو السكاني فقط، بل ينعكس كذلك على السلوك الانتخابي وعلى تراجع الحراك الاجتماعي وتفكك المعنى المشترك للدولة كمؤسسة جامعة. فحين يفقد الأفراد الثقة في قدرتهم على تحسين مصيرهم، يصبح تقليص الأسرة قرارًا عقلانيًا لا مجرد نتيجة لضغط اقتصادي.

الأعمق من الأزمة الديمغرافية، تباينها المجالي، فتونس لا تشيخ كمجتمع موحّد، بل تتفكك ديمغرافيًا على قاعدة تفاوت جهوي صارخ. ففي حين تحظى ولايات الشمال الشرقي وتونس الكبرى بنسبة تعليم جامعي أعلى وتغطية صحية واجتماعية أوسع، تعاني ولايات الشمال الغربي والوسط الغربي من أعلى نسب الأمية وأدنى نسب الرعاية والخدمات. وتشير خارطة التغطية الاجتماعية والصحية إلى انقسام حاد بين «بلد يشيخ بثقة»، و«بلد يشيخ في الهامش دون سند».

هذا الانقسام لا يعكس تفاوتًا في مؤشرات الرفاه فقط، بل تفاوتا في الإمكانية نفسها للنجاة من التحول الديمغرافي. فبينما تتمكّن بعض المناطق من إدارة مرحلة الشيخوخة بشيء من الحماية الاجتماعية، تواجه جهات أخرى شيخوخة مفاجئة وسط الفقر والتهميش، مما يجعل العبء مضاعفًا.

ما يزيد من تفاقم الوضع، أن السياسات العمومية لا تزال رهينة منطق المدى القصير، وتخضع لاعتبارات التوازنات المالية الظرفية بدل الخضوع للرهانات الديمغرافية الطويلة المدى، اذ بدل الاستثمار الجاد في التعليم وفي التغطية الصحية الشاملة وفي تمكين النساء وفي خلق بيئة اجتماعية داعمة للأسرة، يبدو أن الخطاب الرسمي لازال ينظر إلى التحول الديمغرافي كقدر لا كسياسة.

إن أخطر ما في التحولات السكانية أنها لا تحدث فجأة، بل تتسلل ببطء. لكنها تحمل أثرًا زلزاليًا، لأنها تعيد تشكيل المعنى الجماعي للمستقبل. والمقلق أن الزمن الديمغرافي ولو كان أطول من الزمن السياسي، الا انه أعمق أثرًا. فالدولة التي لا تتهيأ له، تجد نفسها أنها «تشيخ من الداخل قبل أن تنهار من الخارج».

اليوم في تونس، ووفق معطيات التعداد، لا تواجه البلاد مجرد تحوّل ديمغرافي، بل تحوّلا وجوديا. بلاد تتقدم في العمر دون أن تكتمل بنيتها التنموية. بلاد يتهددها خطر التحوّل من فاعل يقدّم مشروعًا جامعًا لمواطني الدولة، إلى جهاز تدبيري يكتفي بإدارة شيخوخته. ومتى اقترنت شيخوخة السكان بشيخوخة الدولة، دون عدالة في توزيع الأعباء والحماية، تصبح البلاد مهددة بفقدان قدرتها على تجديد ذاتها وعلى الحلم.

ذلك ما يضعنا امام خيار لا مناص منه وهو أن نعيد التفكير جذريًا في علاقتنا بالزمان وبالمكان وبالدولة، ودون ذلك، وفي ظل مأزق التحوّل الديمغرافي المتقدم، الذي نواجهه سنفقد قدرتنا على تصوّر المستقبل.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115