مهيئًا المكان لعالم جديد في طور التشكل، سِمته الرئيسية القطيعة مع النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة، والسقوط الكلي لمقولة «فوكوياما» حول «نهاية التاريخ» وانتصار النموذج الليبرالي الغربي وهيمنته على العالم.
نظام دولي ونموذج غربي كانا، إلى وقت قريب، قدرًا محتومًا لا فكاك منه، في ظل هيمنة أمريكية ترسّخت منذ التسعينات، في عالم أحادي القطب، لعبت فيه الولايات المتحدة الأمريكية أدوارًا عدّة باتت اليوم تتآكل ببطء. ومعها، برزت مساحات متقلبة لعالم جديد قيد التشكّل كسابقه تلعب فيها الأزمات الإقليمية والتوترات الدولية دورًا مركزيًا في بلورته، مما يطرح على الجميع اليوم سؤالًا جوهريًا: إلى أين تقودنا هذه الرمال المتحركة؟
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في قلب أوروبا عام 2022، والتي تتواصل الى حد اليوم لازالت تلقي بظلالها الكثيفة، لا على أوروبا فحسب بل كذلك على العالم بأسره. فقد أحيت الصراعات على الحدود والخرائط في قلب العالم الغربي القديم وكشفت عن ضعف منظومة الأمن الأوروبي برمّتها والتي كانت بمثابة اختبار لقدرة الغرب على الحفاظ على تماسكه في مواجهة قوة إقليمية طامحة، هي روسيا، التي استمرت في حربها رغم العقوبات المالية والاقتصادية غير المسبوقة.
ان استمرار الحرب رغم تلك العقوبات كشف أن الحلف الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، لم يعد قادرًا على فرض هيمنته، وأن أدوات هذه الهيمنة المالية والتكنولوجية باتت محدودة التأثير في فرض التصور الغربي للعلاقات الدولية.
لقد كشفت تطورات الحرب عن هشاشة التحالف الغربي (أمريكا وأوروبا)، وعن قدرة التيارات الشعبوية على تفكيكه ودفعه إلى مراحل غير مسبوقة من الضعف تجلّت في الصراعات حول الرسوم الجمركية وتغيّر الموقف الأمريكي من الحرب والتلميح إلى الاعتراف بسيادة روسيا على الأراضي التي سيطرت عليها عسكريًا مقابل السلام وإنهاء الحرب التي ما إن مر على اندلاعها عام ونصف حتى التحق بها الشرق الأوسط، الذي يعيش منذ أكتوبر 2023 على وقع حرب إبادة جماعية.
حرب الإبادة ضد قطاع غزة، بدورها، عنصر سرّع من تفكك العالم القديم، بعد أن أكدت عجز النظام الدولي عن فرض الحد الأدنى من الحماية الإنسانية كما أحيت الأصوات الداعية إلى إعادة النظر في شرعية المؤسسات متعددة الأطراف، التي باتت أقرب إلى رموز خاوية، ولم تعد أدوات فاعلة لإنهاء الصراعات أو إدارتها تحت سلطة الأمم المتحدة.
لم تكن هذه الحرب، منذ بدايتها، مجرد صراع إقليمي، بل مسرحًا لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط بما يخدم القوى الكبرى ويُحكم قبضتها عليها. فقد اجتمع الدعم الأمريكي اللامحدود للمشروع الصهيوني مع هدف إعادة تشكيل المنطقة وفق توازنات جديدة، تعزز دور الكيان الصهيوني كقوة إقليمية تسيطر على أهم ممر بحري يربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط واستبدال قناة السويس، في حال تعذر السيطرة عليها، وذلك للتحكم في المضائق البحرية وتطويق خصوم الحلف الغربي، قبل وصول التيارات الشعبوية إلى الحكم في واشنطن واعلانها عن أنها تدافع عن مصالحها فقط.
مصالح تلتقي فيها الولايات المتحدة مع الاحتلال، وهما يمضيان منفردين نحو فرض أمر واقع جديد على المنطقة يصعّد من حدّة التوتر، وينقل ساحات الصراع إلى اليمن وسوريا ولبنان، مما يجعل المنطقة بأسرها تقف على برميل بارود قابل للانفجار في أية لحظة.
ليس الشرق الأوسط وحده المهددً، بل كذلك الشرق الأقصى، الذي شهد في الأيام الأخيرة تصاعد التوتر بين الهند وباكستان، القوتين النوويتين، اللتين تخوضان مواجهات محدودة قد تتطور، في ظل أخطاء وخيارات استراتيجية خاطئة، إلى حرب مدمرة.
ان الصراع الهندي الباكستاني لم يعد مجرد نزاع حدودي قديم، بل أصبح جزءًا من مواجهة أوسع بين مشروعين: المشروع الأمريكي والمشروع الصيني مع سعي كل قوة منهما إلى فرض نفوذها على المضائق البحرية والممرات التجارية ومحاصرة خصمها عبر حروب بالوكالة أو دعم صراعات ضد دول متحالفة مع الطرف المقابل.
غير بعيد عن هذا المشهد، تعيش منطقة شمال إفريقيا والصحراء الكبرى على وقع تصاعد التوتر السياسي والعسكري بين الجزائر ومالي، وهو توتر يلقي بظلاله على أمن المنطقة، ويدفع بها نحو حالة من الارباك، بسبب صراعات تتغذى من تحالفات متنافسة. و يظل هذا التوتر، في شكله الحالي، محدودًا، ولا يُرجّح أن يجرّ المنطقة إلى صراع مفتوح في المدى القريب.
كل هذا يُفضي إلى خلاصة جيوسياسية واضحة: خارطة العالم اليوم تبرز فيها ثلاث بؤر توتر رئيسية، تهدد بانزلاق الجميع نحو تصعيد خطير، قد ينتهي بحروب مباشرة بين القوى الدولية. ولئن كانت هذه الحروب غير ممكنة اليوم لاعتبارات متعددة، الا ان تصاعد الأحداث وسيطرة التيارات الشعبوية على مراكز القرار وتنامي نفوذ الأوليغارشيا المالية، قد يجعل من هذه الفرضية واقعًا محتملًا.
ومما يُفاقم من خطورة هذا الوضع أنّ هذه الصراعات تعبّر، في عمقها، عن تصاعد تأثير المواجهة بين الصين والولايات المتحدة على عملية إعادة تشكيل العالم. وهي مواجهة لا تقتصر على المعارك التقليدية أو الحروب بالوكالة، بل تتجسد في صميم الاقتصاد والصراع التكنولوجي، خاصة في ميدان الذكاء الاصطناعي.
إن الحرب التجارية التي أعلنتها واشنطن ضد بكين تهدف إلى كبح جماح التقدّم التقني الصيني والحد من هيمنته المتنامية على شبكات الإمداد العالمية وتوسّع نفوذ شركاتها في أهم الموانئ البحرية والمضائق الاستراتيجية. هذا ما يجعل الصراع الصيني الأمريكي أقرب إلى حرب باردة بنسخة حديثة: دون جدران ودون خطوط تماس، تعتمد فيها واشنطن على العقوبات والضغط الاقتصادي وحظر التكنولوجيات وإعادة رسم سلاسل التوريد.
في خضم هذا المشهد المتغير، تبرز حقيقة جيوسياسية وهي اننا نعيش مرحلة انتقالية غامضة تتسم بالتنافس الحاد، حيث تتصارع قوى متعددة على إعادة تعريف القواعد. بينما تجد الدول الصغيرة والمتوسطة نفسها بين خيارين: الانكفاء والانكماش، أو الارتهان لأحد الأقطاب.
تونس، كغيرها من الدول الصغيرة، ليست بمنأى عن هذه العاصفة، ذلك أن هشاشتها الداخلية تجعلها عرضة لأي خلل خارجي، كما أن سياستها الخارجية بحاجة ماسّة إلى رؤية واقعية توازن بين المبادئ والمصالح وتُؤسس لشبكة تحالفات مرنة، لا تقوم على الولاء بل على تقاطع المصالح.
ما نعيشه اليوم ليس صراعًا بين الخير والشر، بل مواجهة مفتوحة بين مشاريع قوة، يتداخل فيها الجيوسياسي بالاقتصادي في فضاء رمادي لا ينجو فيه إلا من يقرأ الخرائط الجديدة بعيون مفتوحة، وعقل بارد.