النخبة الأكاديمية والطبقة السياسية: هل ستنتصر السياسة على الإيديولوجيا؟

برز في الساحة السياسية التونسية خلال الفترة الأخيرة نقاشٌ داخل الأوساط الفكرية والأكاديمية والسياسية،

موضوعه الأبرز الحاجة إلى أن تتجاوز أحزاب المعارضة وتياراتها للصراعات الأيديولوجية والتناحر في ما بينها من أجل تأسيس جبهة أو ائتلاف يكون قادرًا على كسر حالة الجمود والاحتكار السياسي التي رسّختها السلطة التنفيذية، والتي استفادت - وفق ما يُقدَّم - من تشتّت المعارضة وصراعاتها البينية.

هذا النقاش، حتى وإن لم يتحوّل إلى فعل سياسي منظّم بعد، إلا أنه يعكس تحوّلًا في المزاج العام لبعض النخب التي اعلنت أنها أدركت أن الأزمة التونسية لم تعد أزمة حكم فقط، بل أصبحت أزمة معارضة عاجزة عن تجاوز صراعات الماضي كذلك وعن التعلّم من أخطائها وعن تقديم أفق وبديل حقيقيين.

ما يُطرح في النقاش اليوم ليس مجرد رغبة في تجميع القوى الرافضة للمسار الحالي، بل دعوة إلى إعادة بناء الفعل السياسي من أساسه: من حيث اللغة والرموز والتحالفات والأهداف. وذلك ما عبّرت عنه عدّة تحاليل فكرية وأكاديمية، سواء منها تلك التي نشرها أصحابها في مقالات أو تدوينات أو نصوص في صفحاتهم الخاصة على منصات التواصل الاجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية، تلتقي جلّها في اعتبار أن تشتّت المعارضة الحالية وفقدانها للثقة الشعبية يعمّقان من انفراد السلطة بالمشهد ويعطّلان إمكانية الخروج من الانهيار السياسي والاقتصادي.

في هذا النقاش، برزت فكرتان مركزيتان:

الأولى، ضرورة تشكيل جبهة ديمقراطية واسعة وموحّدة، تتجاوز الحسابات الأيديولوجيات الضيقة والانقسامات التاريخية، وتلتقي على أرضية الحد الأدنى من المبادئ: الحقوق والحريات والتداول السلمي على السلطة والتعاقد السياسي المدني. هذه الفكرة تسوّق لما يُقدَّم اصطلاحًا باسم «تحالف الضرورة» بين خصوم الأمس، وتُشدّد على ضرورة عدم التعامل مع الشأن السياسي بمقاربات العداوة والصراع الحدّي، بل من منطلق الخصومة السياسية التي تُدار وفق عقد سياسي يعترف بالاختلاف ويؤسس آليات دائمة لإدارته في مواجهة منطق الإقصاء والانفراد الذي بات سمة العمل السياسي في تونس خلال السنوات الأخيرة.

أما الفكرة الثانية، فهي الدعوة إلى إنشاء تحالفات وجبهات تشترك في أرضيّتها السياسية والفكرية، أي تحالفات بين القوى السياسية المتقاربة على قاعدة الفرز القديم الذي يقسّم المعارضة إلى ثلاث عائلات كبرى: عائلة الدستوريين وعائلة الإسلاميين والعائلة الديمقراطية الاجتماعية. جلّ مكوّنات وأحزاب هذه العائلات السياسية والفكرية ترفع لوائحها في وجوه من تعتبرهم خصومها وأعداءها السياسيين، وترفض التحالف أو العمل المشترك.

هذه التصوّرات، سواء منها التحالف على قاعدة أيديولوجية أو التحالف السياسي الواسع، على وجاهتها النظرية، تصطدم اليوم بعقبات أبرزها أن تجارب الماضي رسّخت حالة من انعدام الثقة بين الفاعلين السياسيين، وبينت هشاشة الروابط بين مكوّنات الطبقة السياسية والنخبة الأكاديمية والفاعلين الاجتماعيين، إضافة إلى الإرث السلبي الذي خلّفته سنوات ما بعد الثورة، من انتهازية سياسية وغياب للمحاسبة، أمر لايزال حاضرًا في ذاكرة التونسيين ويغذّي الشك في كل دعوة إلى «الإنقاذ» أو «البديل». تنضاف إلى ذلك عقبة الآليات التنظيمية القادرة على نقل الفكرة إلى حيز الفعل السياسي.

هذا لا يعنى ان هذا النقاش دون افق، بل أنه مرشّح للتطوّر وان يحظى بنصيبه في الفضاء العام، مما يعني أننا أمام فرصة لإعادة هيكلة المشهد السياسي التونسي الذي بات اليوم في حاجة إلى مواجهة أسئلة جوهرية، وأن يتجاوز أزمة البحث عن من يمثل المعارضة؟

تكمن أهمية هذا النقاش النخبوي في أنه يطرح مسألة تحديد شروط توحيد القوى السياسية في تونس، والبحث في حدود الممكن السياسي، بما يمثل خطوة إيجابية تبين أن جزءًا من نخب البلاد وطبقاتها السياسية باتت تدرك أن البلاد استنفدت طاقتها في إعادة تدوير الأزمة، وأن أي أفق حقيقي للتغيير لن يكون ممكنًا إلا بإفراز تصوّر جديد للعمل السياسي، لا بتدوير الماضي وإعادة إنتاج أخطائه.

ما يُناقش اليوم وما يُطرح من أفكار تتعلّق بالممكن السياسي وتجاوز العداوات الأيديولوجية من منطلق مبدئي لا ينظر إلى الآخر كخصم سياسي أو كعدو، وقد يكون ذلك نواةً لما بعد الجمود، الا ان تحوّل هذه النواة إلى قوة سياسية فاعلة يظل رهين تجاوز أخطاء الماضي والاصطفاف، والاستقطاب.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115