بطلب من الأمم المتحدة محكمة العدل تنظر في جرائم الاحتلال: هل سيصحو الضمير الدولي؟

مع انطلاق جلسات الاستماع في محكمة العدل الدولية بلاهاي، في بداية هذا الأسبوع،

للنظر في طلب الأمم المتحدة بشأن مدى التزام الاحتلال الإسرائيلي بالقانون الدولي في حربه على غزة، يتجدد السؤال الكبير: ما الذي يمكن أن تفعله العدالة الدولية إزاء حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزة؟ وما طبيعة القرار المنتظر من هذه الهيئة القضائية الدولية في ظل حصار خانق وجرائم حرب مستمرة منذ أكتوبر 2023؟

أسئلة عدة تُطرح اليوم، وقد استأنفت آلة الحرب الصهيونية جرائمها ضد الفلسطينيين الذين يعانون منذ أكثر من 8 أسابيع من قصف وحشي وحصار يهدف إلى تجويعهم وقطع سبل الحياة عنهم. ذلك ما يفترض أن تنظر فيه هذه الجلسات التي تأتي في لحظة مفصلية، لتعلن أن المجتمع الدولي برمته يقف أمام اختبار حقيقي لجدية النظام القانوني الدولي ومدى قدرته على فرض الحد الأدنى من الالتزامات الإنسانية على «دولة» تمارس الاحتلال العسكري والهيمنة السياسية الكاملة على منطقة تفرض عليها الجوع ونقص الإمدادات تزامنا مع القصف الذي يهدف، إضافة لقتل الفلسطينيين، إلى تدمير بنيتهم التحتية.

قبل الهدنة وبعدها، كان جليًا أن الاحتلال الصهيوني ارتكب ويرتكب جرائم حرب، أبرزها جريمة الإبادة الجماعية التي استأنفها منذ أكثر من خمسين يومًا، عبر المنع بشكل شبه كامل لدخول المساعدات إلى قطاع غزة، مما تسبب في انتشار مجاعة موثقة وشاملة حسب تعبير المفوض العام لـ«الأونروا» فيليبي لازاريني، الذي وصفها بأنها «مجاعة من صنع الإنسان بدوافع سياسية».

في هذا السياق، تتنزل هذه الجلسات التي قاطعها الاحتلال، وتكمن أهميتها لا في بعدها القانوني فقط بل في بعديها السياسي والأخلاقي اللذين يضعان كامل المنتظم الدولي وما أفرزته مؤسساته أمام امتحان لمصداقية هذا المجتمع الدولي ومؤسساته وهيئاته، أمام الانتصار القانوني والسياسي كأضعف الإيمان لحق الشعوب وللقانون الإنساني أو أن تسقط من يدها الدوافع السياسية والأخلاقية التي أنشئت من أجلها.

إن القرار المنتظر من محكمة العدل الدولية ليس مجرد رأي قانوني، بل هو بيان أخلاقي وسياسي يعيد طرح سؤال قديم: لمن تسن القوانين الدولية إذا كانت تُعطَّل حين يتعلق الأمر بموازين القوة؟ وهل يمكن أن يصمد المجتمع الدولي ومؤسساته دون «غطاء» أخلاقي وسياسي وحضاري والذي بات اليوم محل تشكيك واسع؟

الإجابة قد يحملها المستقبل القريب، أما في الزمن الراهن، وهو الذي يهمنا، ما الذي ستفضي إليه قرارات المحكمة التي، ولئن كانت قراراتها غير ملزمة من الناحية القانونية في القضايا الاستشارية، الا أنها ومهما كان القرار الذي ستصدره سيكون ذلك مرجعًا دوليًا ذا ثقل قانوني وأخلاقي كبير، يُستند إليه في تأطير المواقف في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة وحتى في المحاكم الوطنية والدولية الأخرى. أي سيكون حجة إضافية تزيد من تعرية ازدواجية المعايير الغربية في ظل سياق دولي وأممي يتسم باحتدام الصراع وبداية تفكك الهيمنة الغربية.

بعيدًا عن هذا السياق الجيوسياسي، سيكون قرار المحكمة، والذي من المتوقع أن يعيد التأكيد على التزامات الكيان المحتل باعتباره قوة احتلال بما تتضمنه اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني، قد يمثل ضغطًا يساعد على دخول المساعدات الإنسانية دون قيد أو شرط، خاصة خاصة اذا كان القرار واضحًا في هذه النقطة دون مواربة.

قرار من الناحية الإجرائية والقانونية نظريًا قد يتضمن إشارة صريحة إلى أن حصار الاحتلال المفروض على قطاع غزة يندرج تحت خانة «العقوبة الجماعية» المحظورة دوليًا، مما يرقى إلى خرق خطير للقانون الدولي. قد يستوجب من هيئة المحكمة أن توجه دعوة إلى اتخاذ تدابير دولية فاعلة لوقف هذه الانتهاكات، عبر دور الدول الثالثة والمنظمات الأممية.

قرارات ستضع الهيئة الأممية، وخاصة مجلس الأمن، أمام خيارات محدودة تلزمه بطرق عديدة بضرورة تنفيذ القرارات الصادرة عن المحكمة وهي التي لا تمتلك أدوات مباشرة لفرض قراراتها، ولكنها تحيلها إلى المنتظم الأممي الذي يلزم بتنزيل هذه القرارات والإجراءات قانونيا وفق الأدوات المناسبة، وذلك مرهون اليوم بإرادة سياسية أمريكية بالأساس تخاطر بأن تفاقم من حدة الأزمة ومن تصدع إضافي في هياكل المنتظم الدولي.

الولايات المتحدة الأمريكية، التي باتت في ظل دعمها غير المشروط للاحتلال تشكك في شرعية المحكمة بل وتتهمها بأنها منحازة وغير ذات مصداقية، تدرك أنها غير قادرة على منع انعكاسات القرار اليوم في المستقبل، خاصة وأن الأدوات القانونية تسمح بتجاوز مجلس الأمن والذهاب إلى الجمعية العامة لإصدار قرار قد لا يكون ملزمًا للاحتلال، لكنه يعيد مرة أخرى تذكير شعوب العالم بالضحية في هذه الحرب من ناحية و بالمجرم من ناحية أخرى.

هنا، أيا كان مآل مصير هذا القرار، التنفيذ أو عدمه من قبل الاحتلال وداعميه، ذلك لا ينال من القوة الرمزية والتراكمية لمثل هذه الآراء القانونية. فالرأي الاستشاري الصادر عن المحكمة في عام 2004 بخصوص جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية لم يوقف البناء، لكنه أسّس لمسار طويل من الإدانة الدولية والعزل السياسي، ووفّر للمدافعين عن الحقوق الفلسطينية مرجعًا قانونيًا لا يمكن إنكاره. وعلى المنوال نفسه، قد يشكّل القرار المنتظر الآن أرضية صلبة لمحاسبة الاحتلال مستقبلًا، في المحاكم أو من خلال العقوبات، أو حتى عبر الضغط الشعبي والحقوقي المتزايد في عواصم العالم.

ما يُنتظر من محكمة العدل الدولية ليس معجزة لوضع حد لأوزار الحرب، بل الحد الأدنى من الوضوح الأخلاقي والقانوني، بإصدار قرار يذكّر العالم بأن القانون الدولي والضمير العالمي يُختبران اليوم في دماء الأطفال وفي صرخات المحاصرين الذين يحرمون من الغذاء والدواء.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115