تونس ولحظات الاختيار الرئيسية: III- اقتصاديا: النمو أولا وقبل كل شيء

يقول المثل الفرنسي «الجحيم مُبلّط بالنوايا الحسنة» والنوايا الحسنة

التي بلّطت جحيمنا في تونس منذ الثورة هي شبه الاجماع على «ضرورة تغيير منوال التنمية» .

هذا لا يعني، بالطبع، أن المنوال التنموي السابق عن الثورة كان مثاليا أو أنه لا يحتاج الى اصلاحات عميقة، لكن الإشكال التونسي هو حصر مفهوم «المنوال» في بعده الايديولوجي أي ما كان يسميه كارل ماركس بعلاقات الانتاج والفكرة الحاضرة المخفية في حوار جلّ النخب (باستثناء النخب الاقتصادية) هو أن الثورة لن تكتمل إلا بالتحول من النموذج الرأسمالي (الليبرالي في خطاب النخب) الى صنف من أصناف الاشتراكية أو الدولانية (l’étatisme) التي تخفي اسمها .

بعبارات أبسط كان جوهر النقاش في الفضاء العام هو في الطرق الجديدة لاقتسام الثورة بينما لم تنل مسألة انتاج الثروة اهتماما يذكر ، دوما باستثناء النخب الاقتصادية بطبيعة الحال .

لنقم بعملية رياضية بسيطة :

لقد تطور الناتج المحلي الاجمالي لتونس من 2010 الى 2024 بـ%16.3، لكن لو افترضنا أن معدل النمو كان في حدود %4 على امتداد كامل هذه الفترة لكان تطور الناتج المحلي بـ%73.1 أما لو كنا أكثر تفاؤلا واعتمدنا، افتراضيا ، نسبة %6 ستطور الثروة التونسية بنسبة %126 أي أن معدل الثروة الحقيقية الجماعية والفردية يكون قد تجاوز ضعف ما كان عليه سنة 2010.

فبين ما حققناه فعلا في هذه السنوات الخمس عشرة وبين ما كان يمكن تحقيقه لو كان معدل نمونا بـ%6 تكون البلاد قد خسرت –افتراضيا بالطبع - حوالي 140 مليار دينار (قرابة ضعف ميزانية الدولة الحالية) ويكون كل فرد تونسي قد خسر – افتراضيا دوما– حوالي 12 ألف دينار .

للتذكير هنا، لقد حققت دولة الاستقلال على امتداد نصف قرن نسبة نمو تناهز %5 وعليه فان افتراض انجازها لـ%6 بعد الثورة ليس من باب المستحيل قطعا.

لو أخذنا ترتيب الدول وفق الناتج المحلي الاجمالي بالدولار للفرد الواحد سنجد تونس في المرتبة 129 في هذه السنة أما لو حققت البلاد فرضية نمو بـ%6 على امتداد 15 سنة، سيكون ترتيبنا في حدود المرتبة 90 أي أن 39 دولة قد تقدمت علينا فقط نتيجة النمو الهش الذي كان معدله في حدود %1.2 فقط على امتداد هذه السنوات الخمسة عشر.

صحيح أن هنالك عوامل عدة أثرت بصفة سلبية على نمو الاقتصاد بدءا بالثروة وهذا طبيعي في السنوات الاولى وهو ليس خاصا بتونس، يضاف الى هذا الضربات الارهابية للسياحة سنة 2015 والسنة الكارثية للكوفيد (نسبة نمو سلبية بـ%9 سنة 2020) لكن كل هذا لا يفسر لوحده النمو الهش الذي أصبح هيكليا في البلاد .

الأمم التي تمكنت في ظرف جيل واحد من تجاوز تأخرها الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي (وجلها في آسيا ) لم تطرح اسئلة ايديولوجية من صنف من نحن؟ أو أي منوال تنمية نريد؟ بل طرحت سؤالا بسيطا في ظاهره عميقا في أثره وهو : كيف ننتج أكثر وأفضل وبسعر تنافسي ؟ كيف نحقق نموا سريعا وقارا في ذات الوقت ؟ وماهي السياسات التي ينبغي اقرارها لتحقيق هذا ؟

هذه هي الأسئلة الأساسية والتأسيسية التي لم تطرحها نخبنا منذ الثورة الى حد الآن..

كيف نخلق النموّ؟ وكيف نخلق المزيد من النمو ؟ وكيف نرتقي في سلم القيم؟ وكيف نستفيد من كل فرص العولمة على علاتها؟ وكيف نعالج المشاكل الاجتماعية العميقة من بطالة وتهميش للجهات الداخلية والشباب بحلول اقتصادية ناجعة لا بوصفات ايديولوجية طوباوية؟

جزء هام من نخبنا منذ ستينات القرن الماضي مغرم بشتى أصناف القطيعة ، من القطيعة الابستمولوجية (المعرفية) الى القطيعة مع الرأسمالية مرورا بالقطيعة مع الماضي أو مع العلمانية أو مع غيرها من عقائد وإيديولوجيات والتي تتالت على الهيمنة الايديولوجية في بلادنا، والحال أن القطيعة فرضية نظرية لا وجود لها في أرض الواقع اذ أن كل ما يحصل في عالم الفكر والسياسة وحتى ما يبدو انه أحيانا تحول طفري، هو في الأساس وليد لتراكمات سابقة وسرعان ما يصبح عنصرا في الواقع الملموس للتجربة التاريخية للشعوب..

لو وسعنا النظر قليلا ووقفنا على تجارب الدول غير الغربية التي تمكنت خلال هذه العقود الأخيرة من التقدم السريع الى درجة أنها أصبحت تهدد بوضوح الهيمنة الغربية على العالم والمستمرة منذ قرون، نرى أن العنصر المحدد لكل هذه التجارب هو قدرة هذه الدول على الخروج من النمو الهش الى النمو السريع (فوق %5 وفي حالات تفوق %10) على امتداد عقود ونرى هناك أن كل الاصلاحات والسياسات قد تمحورت حول تحقيق شروط امكان هذا النمو السريع والمستقر ..

في تونس لا ينقصنا التشخيص السليم بل وضع هذا التشخيص في صلب أولوياتنا ونقاشاتنا وسياساتنا العمومية .

النمو السريع (فوق %5) لا يمكن أن يأتي الا بصدمة استثمارية (un choc d’investissement) كما يقول الصديق الاقتصادي حيكم بن حمودة ،والصدمة تعني هنا عدم الاكتفاء بالنسق الحالي للاستثمار سواء أكان عموميا أو خاصا والتخطيط لمضاعفته مرتين أو ثلاثة عبر شراكات جسورة ومشاريع عملاقة ذات جدوى اقتصادية تكون قادرة على تغيير وجه البلاد في ظرف عقد من الزمن .

من بين هذه المشاريع الضخمة تحويل تونس الى مصنع عالمي لإنتاج الطاقات البديلة والشمسية على وجه الخصوص لا للاستهلاك الداخلي للكهرباء فقط او لتصديره، فالكهرباء المنزلي او الصناعي لا يمثل سوى %20 من مجموع الطاقة التي نستهلكها، عليه ينبغي أن يكون الطموح كهربة النقل البري العمومي مع كهربة النقل الخاص والتقليص الى الأقصى من استعماله بفضل شبكات نقل جماعية نظيفة وذات جودة عالية .

لدينا الشمس ولدينا الكفاءات وهنالك المستثمرون ،يكفي فقط أن نتخلص من البطء البيروقراطي حتى نحول تونس وفي أسرع وقت الى قطب متوسطي ومغاربي للطاقة الشمسية مع نسيج صناعي يدعمها وجامعات ومدارس تكوين لمختلف المهن الضرورية لذلك.

كنّا ذكرنا في مناسبات سابقة أن الثورة الديمقراطية في تونس تسمح بجعل بلادنا قطبا عربيا وافريقيا ومتوسطيا للصناعات الثقافية ويمكن انجاز ذلك في شكل مدن موزعة على مختلف مناطق البلاد لصناعة الكتاب بمختلف اصنافه والموسيقى والسينما والألعاب الالكترونية وهذه الصناعات ستوفر عشرات الآلاف من مواطن الشغل فجلّها ذات قيمة مضافة مرتفعة .

هذه عينة من المشاريع الضخمة المهيكلة اضافة الى تعصير البنى التحتية وشبكات المياه والتطهير وشبكة الألياف البصرية التي تسمح بالتدفق العالي للانترنات. والأساسي هنا هو أن ننجز في سنة واحدة ما كان يستوجب سنوات عدة وأن نصلح منظوماتنا الادارية والقانونية والجبائية والتعليمية والتكوينية وفق هذا الهدف وأن نجلب الاستثمارات الضخمة للبلاد شرقا وغربا ..

كل هذا، وغيره كثير ،ممكن شريطة تحقيق تحولات هامة في حوكمة البلاد وفي ثقافة العمل، أولها وأهمها أن تنتقل الدولة من الاكتفاء بلعب دور الدولة المغذية (l’Etat nourricier) الى الدولة المخططة (l’Etat stratège) الذي يستبق التحولات الاقتصادية في العالم ويصلح النسيج الاقتصادي والمنظومات التربوية والتكوينية ويوجهها نحو مهن وكفاءات المستقبل.

هذه الصدمة الاستثمارية لن تحصل في بلد تستهجن نخبه ومواطنوه الثروة وتشيطن فيه المؤسسة الخاصة ويؤثم فيه النجاح والطموح الى الثراء ..

لم تكن الصين الخارجة من حكم ماوتسي تونغ ومن ثورته الثقافية لتصبح على ماهي عليه الان دون الشعار الذي رفعه تنغ سياوبينغ منذ اكثر من 40 سنة «استثروا» (enrichissez vous) داعيا مواطنيه وهياكل بلاده لإتباع ما كان يسمى باقتصاد السوق الاشتراكي وهو في الحقيقة شبيه بالرأسمالية الفجة في القرن التاسع عشر، لكن ومع دولة مخططة وماسكة بكل تلابيب المجتمع الناجح والثري.

والمستثمر ليس فاسدا، وإذا انحرف او سعى الى الطرق غير المشروعة ةيعاقب بقضاء عادل وناجز .. الإشكال ليس في وجود أثرياء فهذا ضروري لنهضة الاقتصاد بل في استئثار بعض الجهات وبعض العائلات بجزء هام من هذا الثراء .. الثراء ينبغي أن يكون حلما ممكنا لكل بنات وأبناء هذا الوطن وينبغي أن تكون كل جهات بلادنا مناطق يحلو فيها العيش وجالبة للذكاء والاستثمار وليست طاردة لبناتها وأبنائها.

لقد أضعنا وقتا كثيرا خلال هذه السنوات الخمس عشرة وكأننا نريد اكتشاف العجلة من جديد..

الطريق واضحة لكل من يروم الوصول، لكنها غائمة لمن لا وجهة له.

لقد آن الأوان حتى تحدد تونس وجهتها وأن تجعل من تقدم البلاد ورفاهية المواطنات والمواطنات هدفها الأساسي والمؤسس

(يتبع )

IV- تربويا: من مدرسة اللامساواة الى مدرسة التفوق للجميع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115