ونحن هنا أمام حقيقة قوية تغيب في أحيان كثيرة عن أذهان البشر وهي أن الحرب (اي استعمال القوة لفرض موازين قوى جديدة) هي العمود الفقري للعلاقات بين الدول وما فترات السلام إلا نوع من أنواع الاستعداد للحرب وللحروب القادمة.
عندما نكون في بلد أو في منطقة يكون السلام طابعها الأساسي يخيّل الينا أحيانا أن الحرب ظاهرة لا تعنينا وأنها تنتمي الى العصور الخوالي، لكن يكفي أن نتأمل، ولو قليلا، في تاريخ كل بلد وكل منطقة في العالم لندرك بوضوح أن الحروب قد هيكلت تاريخ كل الشعوب، والفرق الأساسي بين الأمم هو الاستفادة أو التضرر – وأحيانا الانقراض كما حصل لشعوب عدة خاصة في ما كان يمسى بالعالم الجديد أي الأمريكيتين .
ويصدق على كل شعوب الدنيا المثل التونسي «الضربة في غير جنبك كأنها ضربة في حيط» اي أن شعور البشر بأهوال الحرب ودمارها يتفاعل عكسا مع عوامل البعد الجغرافي والثقافي والنفسي .
الحرب حتى وإن كانت تعني أساسا المواجهات العسكرية بين جيوش نظامية أو ميليشيات الا أن وجوهها متعددة، لذلك يحق لنا أن نتحدث عن الحروب التجارية والعلمية والتكنولوجية، بهذا المعنى لا وجود لسلم بين الدول إلا عندما تكون متحالفة استراتيجيا كما هو شأن دول الاتحاد الأوروبي خاصة والدول الغربية عامة، ولكن يخطئ من يعتقد بأن هنالك تحالفات دائمة وأزلية والتاريخ المعاصر أكبر دليل على ما نقول .
من حقنا أن نرفض أخلاقيا وإنسانيا وضع الحرب هذا وأن نعمل على تغييره وإحلال السلم العالمية كما كان يحلم بها الفلاسفة ولكن لا يمكن فهم واقع العالم اليوم بالطوباويات السلمية .
هنالك مسألة ثانية على غاية من الأهمية لأنها تمثل المُحدّد المفترض لديبلوماسيتنا الحالية والمستقبلية وهي المآلات المرتقبة على المستوى المنظور لواقع الموازين الدولية.
يتحدث كل الخبراء منذ ثلاثة عقود على الأقل على انتقال العالم من القطبية الثنائية زمن الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي الى عالم متعدد الاقطاب مع الصعود المتواصل لدول تنتمي الى ما يسمى بالجنوب الكلي ( le sud global) والتي باتت تهدد الهيمنة الغربية على العالم .ومع هذا الحديث كثر التكهن بانهيار الغرب أو على الأقل بتراجعه الكبير لفائدة الدول الصاعدة في الجنوب. ومنذ الثورة في تونس نادت بعض التيارات السياسية والفكرية بضرورة مراجعة تموقعنا الجيوسياسي والتجاري والمالي والتعامل بمتانة أكثر مع دول كالصين أساسا لأنها لا تنتهج سياسة الهيمنة كالدول الغربية، اذ لا ماضي استعماري لها وهذه الدول الجديدة - وعلى رأسها الصين – تبحث عن التعاون المربح للطرفين وبالتالي فالمستقبل معها لا مع غيرها ..
لا يخلو هذا الرأي من وجاهة ومن سذاجة في نفس الوقت .
تكمن الوجاهة في الحث على تجديد الفكر الاستراتيجي في بلدنا وعدم التعويل الأعمى على علاقات وشراكات دون البحث عن تنويعها وعن توزيع المخاطر واغتنام الفرص الجديدة خاصة وأننا نعيش في زمن أفول شركائنا التقليديين ..
أما السذاجة فهي في الاعتقاد في ملائكية هذه الدول الصاعدة وأن غياب ماضيها الاستعماري (في منطقتنا فقط) دليل كاف على حسن النوايا والتعامل الندّي.. لكن السذاجة الأكبر – في تقديرنا - تكمن في الاعتقاد بسرعة الأفول الغربي العسكري والاقتصاد والعلمي ..
ذكرنا في مرة سابقة توقعات المؤسسة الامريكية «قولدمان ساكس» لآفاق النمو العالمي سنة 2075 أي بعد نصف قرن من الآن وعنوان الدراسة التي تم انجازها في ديسمبر 2022: «الطريق نحو نمو عالمي اكثر بطءا في أفق 2075 ولكن التقارب مازال قائما».
لنكتف بمقارنة تطور الناتج المحلي الاجمالي للدول الخمس الأولى في العالم.
في سنة 2020 كان الترتيب كالتالي بحساب البليون دولار:
1 - الولايات المتحدة : 21.8
2 - الصين :15.5
3 - اليابان : 5.2
4 - ألمانيا : 4.0
5 - الهند : 2.8
ويتوقع أن يصبح الترتيب على النحو التالي سنة 2050
1 - الصين 41.9
2 - الولايات المتحدة 37.2
3 - الهند 22.2
4 - اندونيسيا 6.3
5 - المانيا 6.2
وقد يكون على النحو التالي سنة 2075
1 - الصين 57.0
2 - الهند 52.5
3 - الولايات المتحدة 51.5
4 - اندونيسيا 13.7
5 - نيجيريا 13.1
لقد كان نصيب الدول الغربية (نضيف إليها اليابان واستراليا أساسا ) من انتاج الثروة العالمية سنة 2000 حوالي %80 ليصبح دون %30 على الأرجح في أفق سنة 2075.
لاشك أن هنالك تحولا هائلا يجرى أمامنا ويؤكد التراجع الواضح الاقتصادي للغرب مقابل صعود قوي للدول الآسيوية (دون احتساب اليابان) والتي سيرتفع نصيبها من النمو العالمي من أقل من %10 سنة 2000 الى ما فوق %40 سنة 2075 وسيكون تقدم آسيا على الدول الغربية واضحا بداية من سنة 2050 .
لكن الناتج المحلي الاجمالي لا يلخص كل شيء، فلو نظرنا الى الناتج المحلي الاجمالي بالنسبة للفرد الواحد ستبقى الدول الغربية أكثر رفاهية بوضوح في أفق سنة 2075 اذ من المتوقع أن يكون معدّل الفرد فيها 116 ألف دولار في حين يبلغ بالكاد 40 ألف دولار في دول آسيا.. كوريا الجنوبية وحدها ستكون في مستوى رفاهية الدول الغربية بأكثر من 100 ألف دولار للفرد الواحد بينما سيكون المعدل الفردي في الصين (55.4 الف دولار) أي أقل من نصف المعدل الغربي .
وهذا الفرق الواضح في الرفاه الغربي سيوفر للدول الغربية (وأساسا الولايات المتحدة) امكانيات ضخمة لتمويل تفوقها العسكري والعلمي والتكنولوجي وهذا قد لا يتوفر لجلّ الدول الاسيوية باستثناء الصين .. أما قوة القارة الصينية فتكمن في وجود عملاقين ديمغرافيا واقتصاديا وهما الصين والهند مع دول ذات مستوى اقتصادي مرتفع للغاية ككوريا واليابان حتى وإن كان يتم اعتبارها دولا ضمن الدول الغربية ولكن التحالفات والتموقعات كما أسلفنا ليست أبدية .
نحن ازاء تقديرات خطية (estimations linéaires) لا تأخذ بعين الاعتبار التغيرات الطفرية المفاجئة والتي قد تعجل – في وضعية الحال – النمو الآسيوي أو تعيقه .
هذا الانقلاب الهام في موازين القوى الاقتصادية بين الغرب وآسيا سوف يعمق النزعات العدوانية والحروب السافرة أو الخفية وسيحتاج كلا المعسكرين الى حلفاء قدامى أو جدد وستستعر نار الحرب التجارية والمالية والتكنولوجية والعلمية بشكل لم تشهد له البشرية مثيلا، والمؤكد أن القواعد التي حكمت «العولمة السعيدة» منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ستتغير بصفة جوهرية ونحن نرى منذ الآن بواكيرها الاولى مع سياسة ساكن البيت الأبيض الجديد .
ما العمل بالنسبة لبلاد كتونس اليوم وعلى امتداد العقود القادمة ؟
في البداية لابدّ أن نعي بحقيقة حجمنا وبخطر التلويح بالتموقع في أي معسكر كان والتوقي قدر الامكان من انعكاسات هذه الحروب المدمرة ..ولكن في نفس الوقت لابدّ من حسن الاستعداد للاستفادة من كل الفرص التي يتيحها وسيتيحها هذا القرن المنقلب حتما.
هنالك ثلاثة مستويات متضافرة ومتضامنة لو أحسنا الاشتغال عليها فسيكون وضع بلادنا في العقود القادمة أفضل بكثير ممّا هو عليه الآن.
1 - العمل على بناء جبهة داخلية قوية ومتضامنة وذلك لن يكون ممكنا إلا في ظل ديمقراطية تشاركية ادماجية تقطع مع صراعات وأحقاد الماضي وتهيئ المناخ للإقلاع الفعلي للبلاد حتى نتمكن دوما من تحسين شروط التفاوض الاقليمي والدولي.
2 - التخطيط العقلاني للخروج السريع من الأزمة الهيكلية للنمو الهش ولحشد كل القوى والإمكانيات من أجل عقود من النمو القوي والمستقر والمستدام على ألا يقل طموحنا عن %5 سنويا، بعقدين فقط بهذا النسق سيتغير وجه البلاد بصفة جوهرية ..
وهذا التخطيط لن يؤتي أكله إلا بالصعود المستمر في سلاسل القيمة اقتصاديا وتجاريا وعلميا وتقنيا وتربويا حتى نخرج من خانة الدول ذات الدخل المتوسط بل والمتواضع لو واصلنا على الوتيرة الحالية.ولكن كل هذا قد لا يكون كافيا في عالم يكون فيه الصراع بين أقطاب عظمى على كل المستويات .
3 - ان تجاوز مخاطر انقلاب الموازين الدولية يقتضي منا البحث الجدي عن تحالفات اقليمية فيها نسب مرتفعة من الاندماج الاقتصادي بداية ولِمَ لا السياسي بمعناه العام ثانية .
لدينا منطقتان طبيعيتان وهما دول شمال افريقيا من مصر الى موريتانيا ودول افريقيا جنوب الصحراء .
صحيح أننا اليوم دولة صغيرة وغير مؤثرة بما يكفي داخل مناطقنا الطبيعية ولكن هذا لا يمنعنا من العمل على تحقيق أكبر نسب من الاندماج ومن التنسيق دون اهدار الوقت والجهد في الصراعات والانقسامات المتواجدة حولنا ولكن قبل هذا كله لابدّ من عمل كبير على مستوى القيم والفكر والسلوك لإقناع مواطنينا ومواطناتنا بأننا جزء لا يتجزأ من افريقيا ومن الأفارقة وأن مستقبلنا ومستقبل أبنائنا داخل ومع بنات وأبناء هذه القارة لا خارجها .
لن نتمكن من مواجهة مخاطر هذا العالم ومن الاستفادة النسبية من فرصه دون جبهة داخلية قوية ضمن ديمقراطية ادماجية تشاركية ودون عمل جاد ودؤوب من أجل الارتفاع في سلاسل القيمة على جميع المستويات ودون البحث والعمل عن كل أشكال الاندماج الممكنة مغاربيا وإفريقيا ولِمَ لا عربيا غدا
(يتبع)
III-اقتصاديا: النمو أولا وقبل كل شيء