بدءا بالاقتصاد والعلم والتكنولوجيا وصولا الى القيم ومعادلات العيش المشترك مرورا بالتربية والتكوين والثقافة، وكل هذا يتغيّر بوتيرة لم تعهدها البشرية من قبل.
وهذا، بالطبع، يفتح الباب على مصراعيه أمام المخاطر الجديدة، كذلك الفرص التي تتيحها كل هذه التحولات .
وحدها الشعوب والأمم التي تحسن قراءة هذه التحولات واستباقها والاستفادة منها سيتحسن موقعها في معركة البقاء الأبدية، أما الدول التي تسيء التقدير وتتمادى في الخطإ فمآلها التقهقر والتلاشي حتما .
تونس – ككل دول ما كان يسمى بالعالم الثالث ذات الموارد المادية والبشرية المحدودة– مطالبة في كل لحظة بحسن الاختيار بين الممكنات المتاحة أمامها،ولاشك أن حسن الاختيار السياسي سييسر لنا بقية الاختيارات .
لعلّ المسألة الأعسر هنا هي الاتفاق على الشروط الموضوعية للاختيار فهل أننا ننطلق من أحلامنا – وأوهامنا أحيانا – أو من تصوراتنا الذهنية وقناعاتنا الايديولوجية أو عملا بما تمليه علينا المصلحة العامة ..والمصلحة كما بيّن ذلك الفقيه الحنبلي المتفرد نجم الدين الطوفي (ت 716 هـ) انما تتأسس على العقل والعرف اي ما تعود عليه الناس .
بعد عشرية الانتقال الديمقراطي بإخفاقاتها ونجاحاتها تغذت بعض التيارات من هذه الاخفاقات للدعوة للقطع نهائيا لا مع انحرافات هذه التجربة – وهي كثيرة – بل مع كل ما يمس بعلاقة مع الديمقراطية والتعددية الحزبية والجمعياتية والإعلامية والفكرية ومع مشاهد الصراع السياسي في البرلمان وفي القنوات التلفزية ..بل وصلت المهجة العامة المنسجمة مع خيارات 25 جويلية الى نوع غير مباشر من تجريم وتأثيم العمل السياسي والنشاط الحزبي والتعددية الاعلامية وتنتيجة لكل هذه الشيطنة وجد العديد من النشطاء السياسيين والحقوقيين والإعلاميين انفسهم وراء القضبان بالإضافة الى عدد غير معلوم، على وجه الدقة، من المواطنين الذين حكموا بمقتضى المرسوم 54.
لو تجاوزنا الحيثيات الحافة بكل هذه الملفات يمكننا القول أننا ازاء انقسام حاد حول النهج السياسي الذي ينبغي أن تسير عليه الأمور، فالديمقراطية لم تعد القيمة المعيارية لعامة النخب والبعض الاخر يعطيها تعريفات تجعلها في قطيعة مع المعايير المتعارف عليها .
بقي النقاش في تونس معياريا بالأساس :
أيهما أفضل الديمقراطية أم القوية القوية ؟
ولأن النقاش معياري اكسيولوجي لم نره يهم عموم التونسيين كثيرا والذين ارتبطت الديمقراطية في أذهانهم بتجربة الانتقال الديمقراطي وبحكم الاسلاميين أساسا، وهم لا يرون دوما العلاقة بين هذا الخيار السياسي الأساسي وبين حياتهم اليومية من شغل وقدرة شرائية ومشاكل التعليم والصحة والنقل كما أنّ جزءا منهم لا يجد غضاضة من سجن النشطاء السياسيين باعتبارهم سبب البلية في «العشرية السوداء».
نقاش القيم هام دون شك، لكن نقاش الجدوى والفاعلية لا يقل عنه أهمية ولعله آن الآوان للمراوحة بين هذين المستويين .
لكن هل أن الدولة القوية ضديدة الديمقراطية؟
في المخيال التونسي نعم لأنه لا يرى قوة الدولة الا في سطوتها وبطشها ولا يراها في فاعليتها المؤسساتية، ولهذا السبب كان جلّ مناهضي عشرية الانتقال الديمقراطي بدفعهم الحنين الى الدولة التسلطية كما عرفتها تونس مع الزعيم الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وهم يدعمون مسار 25 جويلية باعتباره نموذجا لهذه «الدولة الوطنية» لا تجذيرا لثورة الدواخل..
السؤال هنا: من يضمن نجاعة الدولة التسلطية؟ وهل يمكن مراقبة الدولة وطريقة اشتغالها لو تخلينا عن الاجسام الوسيطة؟
الامن مقابل الحرية في اطار عقد اجتماعي افتراضي هي الفكرة الجوهرية للفيلسوف الانقليزي توماس هوبس في كتابه الشهير «التنين»، لكن التجربة التاريخية شمالا وجنوبا اثبت ان التخلي عن الحرية عادة ما يتبع بالتخلي عن التنمية وعن الأمن أيضا.
تقاس نجاعة منظومة ما – أيا كانت هذه المنظومة مادية او ادبية كانت – بقدرتها على الادماج وبتناسب الطاقة المنفقة مع النتائج المحققة ..
لنأخذ منظومة صناعة النسيج مثلا .
الانطلاقة تكون مع القطن ثم القماش ثم الخيط وبقية المكونات الاخرى للملابس الجاهزة وآلات الخياطة وتصميم الثياب والتسويق الخ ..في بلد يمتلك كل هذه المكونات تكون المنظومة مندمجة بنسبة كلية وهي تنخفض طردا مع القيمة المضافة لكل المكونات المادية أو الخدماتية التي تستوردها ..وتكون هذه المنظومة سيئة للغاية لو استوردت مكونات لها نظير في السوق الداخلية ..
منظومة الاجتماع البشري تشتغل اجمالا بنفس الميكانيزمات فالدورة الاقتصادية التي لا تدمج الجهات والفئات والأجيال، هي ضعيفة الادماج ولا تحقق القيمة المضافة العليا تماما كالحياة العامة التي تقصي مكونات فكرية وسياسة وبالتالي بشرية من المساهمة في إدارة الشأن العام وهي بذلك تفقد جزءا من الطاقة الحيوية وتضطر لاستعمال القوة المفرطة للاستمرار بدل ادماج المغاير والمختلف والذي يوفر لها ضمان الديمومة بإنفاق أقل طاقة ممكنة.
ويبقى الإشكال الرئيسي مع الدولة التسلطية -حتى لو كانت بعض خياراتها صائبة- - استحالة البناء التراكمي للسياسات العمومية الجوهرية (في الاقتصاد والتعليم والصحة والنقل) لأنها غير قادرة على الاستمرار والتجدد وهي زائلة بزوال أصحابها أفرادا كانوا أو احزابا وأيديولوجيات ..
ويتعمق الاشكال عند سعي الدولة التسلطية الى فرض اختيارات مذهبية او دينية او ايديولوجية على عامة المجتمع ظنّا منها أن ذلك منتهى الفاعلية، فتنفق طاقة كبرى في تحطيم المنظومات القائمة دون قدرة على النجاح في ارساء منظومات بديلة اكثر نجاعة ..
التسلط يقود في بعض الأحيان الى مغامرات طوباوية يضيع معها وقت ثمين (دون الحديث عن الكلفة البشرية لهذا الضياع) بينما الديمقراطية عندما تكون فعلا إدماجيا انما هي حركة اصلاحية تشاركية تقي توازنات المجتمع من هزات غير محسوبة العواقب وتعمل دوما على التحسين البراغماتي للموجود، وإذا فشلت أغلبية سياسية في تحقيق ذلك تحل محلها أغلبية جديدة دون أن يعني ذلك هدم ما سبق لأن كلفة الهدم لا تحتملها الديمقراطية الادماجية ..
قد يقول بعضهم أن تونس (وبالأحرى السلطة الحالية) قد اختارت نهجها السياسي وحسم الامر.
اعتقادنا أن باب الاصلاح مهما ضاقت أمامه السبل لا يغلق أبدا ثم إن المخاطر - والفرص - المحدقة بنا من كل جانب تدعونا الى التعويل على كل بنات وأبناء الوطن.
الدرس الأساسي من أخطاء عشرية الانتقال الديمقراطي هو ضرورة وضع حدّ لجدلية الاقصاء والانتقام ،والديمقراطية الادماجية (سياسيا واجتماعيا) هي وحدها القادرة على ذلك.
(يتبع)