الداعية إلى تهجير سكان قطاع غزة، ليشير يوم الأربعاء الفارط إلى أنه لن يُطرد أي فلسطيني من غزة في تغير جذري عما كان يسوق له منذ فيفري الفارط من خطط.
هذا التراجع لا يبدو نتيجة مراجعة مبدئية خاصة بعد أن تواترت المواقف الأوروبية والعربية التي أعلنت الرفض الصريح لتهجير الفلسطينيين من أرضهم واعتبرته جريمة حرب، بل يبدو الأقرب أنه كان تفاعلاً مع واقع فرضته المقاومة الفلسطينية، التي نجحت في تغيير الحسابات السياسية والعسكرية في المنطقة، ودفعت الإدارة الأمريكية، التي كان يهدد رئيسها المقاومة بجحيم إن لم تطلق سراح الأسرى لديها، إلى التفاوض معها والتراجع لاحقًا عن خطته التي تلقفها الاحتلال بسرعة وشرع في إعداد العدة لتنفيذها.
وكان هذا الموقف الجديد الذي به تخلى ترامب عن مشروع تصفية القضية الفلسطينية كليًا، يعيد خلط الحسابات في المنطقة ويوجه ضربة في مقتل لطموح الاحتلال، الذي أعلن وزير ماليته عن تفاصيل عملية تهجير الفلسطينيين من غزة قسرًا، قبل أن يصطدم سموتريتش ومن خلفه قادة الاحتلال بأن سيناريو ضم غزة بات غير قابل للتنفيذ، والفضل في ذلك لصمود الفلسطينيين ومقاومتهم في غزة وإثبات قدرتهم على الاستمرار في المواجهة المسلحة.
فمنذ بداية حرب الإبادة الجماعية التي كانت بدعم أمريكي غير مشروط للاحتلال، كان البعض يعتقدون أن النصر سيكون سريعًا، وأنه سيجعل من غزة خالية من المقاومة وأرضًا خصبة لاستئناف الاستيطان، وهذا ما لمحت اليه تصريحات قادة الاحتلال العسكريين أو السياسيين ممن روجوا إلى أن حربهم تمثل فرصة لفرض وقائع جديدة في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية تسمح بتنفيذ مخططات التهجير والضم لكن صمود المقاومة خلال الأشهر الـ15 من الحرب، التي تكيفت معها خطط المقاومة ومكنتها من استنزاف الاحتلال وإحباط محاولاته لحسم المعركة عسكريًا، أسقط كل حساباته وأهدافه تباعًا، لتفرض عليه في مناسبتين الذهاب إلى صفقة لاستعادة أسراه من قطاع غزة.
نجاح المقاومة لم يكن على الصعيد العسكري والميداني فقط، بل في إدارة المفاوضات، وقدرتها رغم مرونتها على أن تكون حاسمة وقادرة على أن تدفع بمسارها إلى تحقيق جزء من أهداف المقاومة وفرض سياق سياسي جديد في المنطقة، وهو ما كان لها ومكنها من أن تفرض على إدارة دونالد ترامب التفاوض مباشرة معها، بل وأن تتفادى كل محاولات الضغط المسلطة عليها لتقديم تنازلات.
حسن إدارة المقاومة، وأساسًا حركة حماس، للمفاوضات مع الوسطاء القطريين والمصريين، ولاحقًا مع الأمريكيين، مكنها في الأخير من أن ترسخ إدراكًا لدى الإدارة الأمريكية الحالية بأن الحرب اذا استؤنفت من قبل الاحتلال ستكون دون أفق حقيقي للنصر المتمثل في استعادة الأسرى وتدمير حركة حماس، وبالتالي فمن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية لتجنب أي ضرر يصيب استراتيجيتها في المنطقة، أن تعيد حساباتها وأن تراجع خطابها السياسي.
وذلك ما يجعل كلمات دونالد ترامب التي حملت إعلانًا صريحًا بتراجعه عن مخططات التهجير القسري ليست فقط مجرد حدث عابر أو موقف غير متأصل، بل هي انعكاس لتغير المعادلة التي باتت تتضمن اليوم الإقرار بأن المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، لاعب أساسي في المنطقة يستوجب التفاوض معه مباشرة وإنهاء سياسة التجاهل والحوار عبر قنوات، وهو ما يعني أن الإدارة الأمريكية أدركت أنها غير قادرة على فرض حلول من طرف واحد، او الاستمرار في نهج سياسي ثبت فشله لسنوات، خصوصًا بعد عجز الاحتلال عن دفع المقاومة للاستسلام وفشل كل محاولات تحييدها من المشهد السياسي والتي تتجلى في إقصاء حماس من مرحلة «اليوم الموالي» وإدارة غزة.
نجاح المقاومة في تغيير المعادلة إقليميًا لم يكن ممكنًا لولا بعض المواقف العربية التي عكست هذه المرة إدراكًا فعليًا لخطر إدارة الظهر كليًا للقضية الفلسطينية، وهذا الإدراك ليس ناتجًا هو الآخر عن مواقف مبدئية، بل لحسابات استراتيجية ومصلحية.
الأنظمة العربية، خاصة النظام السعودي والمصري والأردني، وهي الأطراف الثلاثة الأكثر تأثيرًا اليوم في المعادلة الفلسطينية ولو بنسب وأوزان مختلفة، تدرك أن دعمها لمشروع التهجير سيكون خطرًا عليها وعلى دولها، وأنهم إذا تمكنوا بمعجزة ما من تجنب التداعيات المباشرة لهذه الخطة، فإنهم لن ينجوا من ارتداداتها المتوسطة المدى، والتي تكمن خطورتها في أن تصبح المنطقة العربية تحت تأثير ثلاث قوى إقليمية تتصارع بينها وهي تركيا وإيران والاحتلال، وأن هذا الثلاثي سيتعاطى مع هذه الأنظمة والدول كتوابع ومجالات نفوذ لا كشركاء أو حلفاء موثوقين.
لذلك، يبدو أن هذه الأنظمة التي مارست بدورها ضغطًا غير معلن وقدمت خططًا مغايرة لخطة ترامب، كشفت في تعاطيها مع الملف عن قدرتها على المناورة أو استخدام أوراق الضغط المسلطة عليها، ومنها ورقة التطبيع أو السلام مع الاحتلال كورقة لإعادة طرح حل الدولتين على طاولة المفاوضات، وإن لم يصدر اليوم موقف صريح من ترامب بتبنيه هذا الخيار، وهو بتراجعه يستجيب ضمنيًا لما يتعرض له من ضغوط.
الإقرار بأن الأنظمة العربية نجحت لحد ما في إعادة ضبط المشهد في المنطقة وإعادته إلى مربع العمل الدبلوماسي، وذلك بفضل ما حققته المقاومة بصمودها ومنعها لتنزيل مخططات الاحتلال أو حلفائه وداعميه على الأرض، لاستحالة فرض هذا الخيار بالقوة العسكرية، لتجبر الجميع، الدول العربية أو غيرها، على سلوك طريق جديدة هذه المرة.
هذه الطريق قد لا تنتهي إلى حلول عادلة، وقد تكون تحركًا تكتيكيًا نابعًا من الضرورات الميدانية والسياسية بهدف تقليص التوتر والضغوط على الإدارة الأميركية أو الاحتلال كذلك الأنظمة العربية، فالثلاثي يلتقي في أنه لا يزال ينظر إلى غزة من منظور أمني بحت، وجميعهم يسعون إلى احتواء المقاومة.
ولو كان الأمر على هذه الشاكلة، أي خطوة تكتيكية، فذلك لا ينفي أن المقاومة في غزة فرضت تحولات على المشهد، الذي بات الكل يدركون أنه اختبار لمعادلات سياسية أوسع تتجاوز حدود القطاع