لعلنا لن نخرج عن إحدى الصفتين: «التكلس» أو «الجمود»، اللتين يمكنهما منفصلتين أو كل منهما على حدة أن تقدما صورة عمّا بات عليه المشهد السياسي التونسي من ركود شامل.
هذا المشهد يمكن أن يقع إدراجه ضمن ما يُعرف في العلوم السياسية بـ «الركود التسلطي» أو ما يطلق عليه صامويل هنتنغتون «التدهور السياسي» (Political Decay)، في إشارة إلى فقدان المؤسسات لمرونتها وقدرتها على التطور والتكيف مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي فقدانها لقدرتها على إنتاج سياسات وحلول لما تواجهه من مسائل اقتصادية واجتماعية وسياسية لذلك، فهي أسيرة إما لإنتاج سياسات قديمة أو أن تتدحرج رويدًا رويدًا إلى الركود المؤسساتي أو التسلطي، الذي ينتج عنه غياب الديناميكيات الديمقراطية والتجدد السياسي، وهو ما باتت تعيشه البلاد اليوم. ولم يكن ذلك ناجمًا عن حدث طارئ كما يريد البعض أن يعتقد أو يسوّق له ، بل هو نتيجة تفاعل مؤثرات محلية وإقليمية ودولية أنتجت هذا النمط السياسي اليوم المأزوم.
هذا الركود السلطوي يمكن الاستدلال عليه بالانطباع المهيمن اليوم في الشارع التونسي، والذي يدفع المواطنين إلى التوجه للرئيس لطلب معالجة أي ملف، أو في سلوك السلطة التنفيذية التي تشدد على وحدة المؤسسات وضرورة انسجام الحكومة/الإدارة مع السلطة وفق الدستور، الذي يمنح صلاحيات واسعة للرئيس، تجعل منه منصبه لا السلطة التنفيذية فحسب فقط، بل مركز القرار الوحيد.
تمركز القرار بيد الرئاسة تعاظم يومًا بعد يوم، لغياب الأحزاب وتراجع دورها ودور المنظمات، وينضاف الى ذلك عجز المؤسسات المنتخبة عن القيام بدورها وتقديم مساهمتها في الحياة العامة، إذ هي الأخرى تراجعت عن مساحات في العمل السياسي لفائدة الرئيس، الذي بات اليوم يحتكر الصلاحيات والمبادرة السياسية.
ذلك يعني بشكل مباشر أنه المتحكم بنسق الفعل السياسي بشكل شبه كلي. وحتى محاولات كسر هذا الاحتكار لم تُفلح، سواء عبر محاولات الأحزاب التي بحث بعضها عن تقديم مبادرات سياسية لخلق ديناميكية في المشهد لكنها تعثرت، أو عبر محاولات الغرفتين التشريعيتين، حيث حاول 11 نائبًا الدعوة لحوار سياسي في محاولة لخلق ديناميكية وإصلاح سياسي في البلاد.
كل هذه المحاولات فشلت، وأسباب فشلها عديدة، يمكن اختزالها في القول بأن المناخ العام، دور الإعلام والمجتمع المدني، وانحسار المساحات الديمقراطية وتراجع منسوب الحرية، ساهمت جميعها في هذه العثرة، التي معها سقطت مرة أخرى محاولات الإصلاح، سواء اتعلقت بالأوضاع السياسية أو الاقتصادية.
هكذا، نجد أنفسنا أمام حالة من الركود التي أنتجت بيئة سياسية جامدة غير قادرة على التجديد أو استيعاب البدائل. فعدم وجود توافق واسع حول طبيعة النظام السياسي الحالي أدى إلى ضعف الثقة في المؤسسات الحاكمة واختلالها لصالح رئيس الجمهورية، خاصة بعد تباين نسب المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية ونتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي يبدو أن السلطة قرأت رسائلها على أنها مطالبة بتعزيز توجهها نحو السلطوية.
هذا ما يفسر تمسك الرئاسة اليوم بنهجها السابق في إدارة البلاد، رغم أن هذا النهج ساهم في تفاقم الوضع الاقتصادي، الذي تعلن السلطة أنه أولويتها ومحل اهتمامها وتركيزها للخروج من الأزمات لكن ذلك لم يتحقق، وبتنا أمام إعادة إنتاج ذات الخطاب، الباحث عن إلقاء مسؤولية تعثر السياسات على جهات أخرى.
محاولة تقديم المشهد بمثل هذا الاختزال ناجمة عن أننا اليوم أمام حالة ركود لا تحتاج إلى أن يُشار إليها، بل نحن في حاجة إلى أن تُدرك السلطة أن الاستمرار في هذا الجمود وعدم التوجه خطوة نحو التغيير والبحث عن توافق سياسي على حزمة إصلاحات تساعد على إحداث ديناميكية تكون قاطرة تجر خلفها باقي خطط الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، سيجعلنا نظل عالقين في هذا الجمود، الذي ينبئنا التاريخ بأنه لا يدوم.