ما يتجاوز الانطباع الاول المتمثل في ارتفاع العجز الى 1765,5 مليون دينار، والذي سجل تدهورًا ملحوظًا مقارنة بشهر ديسمبر الفارط او جانفي 2024.
هذا التراجع لا يكشف فقط عن اختلالات هيكلية عميقة في الاقتصاد الوطني حيث لم تتمكن السياسات العمومية من إحداث أي تحسن ملموس في قدرة البلاد على دعم صادراتها وتنويعها أو تقليص التبعية للواردات خاصة في علاقة بالطاقة، بل كشف عن تراجع صادرات زيت الزيتون بحوالي 10 نقاط، مقارنة بالنسة الفارطة.
في السنوات الأخيرة، ظلّت الدولة ترفع شعارات دعم الصادرات وتنويع الأسواق وتحقيق التوازن في الميزان التجاري، لكنها لم تنجح في الواقع الا في إدارة أزمة متجددة بدل حلها. وتثبت المؤشرات الحالية أن الصادرات التونسية تعاني من هشاشة بنيوية تعود إلى تراجع الإنتاجية وضعف سياسات الدعم الموجهة نحو القطاعات ذات القدرة التنافسية العالية.
كان من المفترض أن تكون الفلاحة أحد الحلول الاستراتيجية لتخفيف العجز التجاري، الا أن تراجع صادرات زيت الزيتون بنسبة 9,7 %- خلال جانفي الحالي اكد أن البلاد لم تستطع الاستفادة من هذا القطاع بالشكل المطلوب، رغم أنه يمثل أحد أبرز موارد العملة الصعبة.
وقد يربط البعض التراجع في هذا القطاع بالعوامل الطبيعية او الاسعار ووفرة الانتاج في السوق الدولية، وهو رأي سليم، الا ان اساس هذا التراجع غياب سياسة واضحة للاستثمار في تطوير الإنتاج وضمان استدامته بعيدًا عن التقلبات.
على الجانب الآخر، شكّلت «فاتورة» الطاقة عبئًا متزايدًا على الميزان التجاري، حيث ارتفعت واردات المنتجات الطاقية بنسبة 24 %، خاصة المواد المكررة التي شهدت زيادة مهولة في كلفتها. يعود ذلك إلى استمرار الارتهان إلى الاستيراد الطاقي بسبب ضعف الاستثمارات في الطاقات المتجددة وتأخر مشاريع تطوير الإنتاج المحلي. و لم تنجح الدولة في تقليص العجز الطاقي، بل على العكس، ازداد الوضع تعقيدًا مع ارتفاع الأسعار عالميًا، مما جعل تونس تدفع ثمن تأخرها في إصلاح القطاع الطاقي والذي كان من الممكن أن يشكل عامل توازن في المبادلات التجارية بدل أن يكون أحد أبرز أسباب العجز.
و تكمن المفارقة في أن السياسات العمومية التي لم تستطع توظيف الموارد المتاحة بشكل عقلاني. فبدل التركيز على تعزيز القدرة التنافسية للقطاعات ذات القيمة المضافة العالية، استمرّ الاقتصاد التونسي في حلقة مفرغة من التبعية التي لا يمكن كسرها او الخروج منها بسياسات ترشيد الاستيراد التي تبين اليوم عجزها عن تغيير واقع اقتصادنا مما جعل العجز التجاري يتفاقم عامًا بعد عام رغم تخفيف كلفة الواردات، والسبب ضعف صادراتنا ذات القيمة المضافة ومحدودية الاسواق التي نستهدفها رغم كل محاولات تنويع الأسواق والتي لم تكن فعالة، وهو امر طبيعي نتيجة سنوات من سوء التخطيط الاقتصادي وغياب رؤية استراتيجية واضحة، كان ثمنها ان ظل الاقتصاد التونسي عالقًا في نمط تصديري هش يعتمد على بضائع غير مصنعة، مما جعله أقل قدرة على التكيف مع الأزمات الاقتصادية العالمية.
وظهر ذلك في أشكال عدة مرتبطة بدورها بالسياسات العمومية ومناخ الاستثمار، حيث لازالت البيروقراطية وغياب الاستقرار القانوني والضريبي تعرقلان أي مبادرة قد تسهم في رفع الإنتاجية. ويواجه المستثمرون المحليون والأجانب على حد سواء عراقيل إدارية تجعل من الصعب تحقيق قفزة نوعية في الصادرات. هذا اضافة الى ضعف البنية التحتية التجارية، حيث تفتقر البلاد إلى سياسات لوجستية حديثة تسهّل عمليات التصدير، ناهيك عن تأخر رقمنة المعاملات التجارية، مما يزيد من تعقيد الإجراءات أمام المصدرين.
العجز التجاري الذي تسجله تونس اليوم ليس مجرد رقم في التقارير الاقتصادية، بل هو انعكاس لفشل مستمر في إدارة موارد البلاد وعدم توظيف إمكانياتها بالشكل الصحيح. لقد آن الأوان لمراجعة عميقة للخيارات الاقتصادية، دون الاكتفاء باتخاذ إجراءات ظرفية للحد من العجز.