بعد استكمال عملية التحكيم والتوافق بين مجلس نواب الشعب ومجلس الأقاليم والجهات على الصيغة النهائية. ويبدو أن الخلاف بينهما اقتصر على فصلين دون رهانات، وسنكون اليوم أمام الصيغة شبه النهائية لقانون المالية.
هذه الصيغة يمكن اليوم تناولها بالدراسة والتفكيك للوقوف على ما تحمله من آثار وتأثير على الاقتصاد الوطني، على الأفراد (أي المستهلكين) وعلى المؤسسات الاقتصادية، الصغرى أو المتوسطة، أو الكبرى. نحن اليوم أمام صيغة شبه نهائية تقريبًا لقانون مالية تقدمت به الحكومة، وخضع خلال مسارات النقاش والمصادقة عليه الى تعديلات وتنقيحات انتهت به إلى صيغته الراهنة.
صيغة يمكن استقراؤها انطلاقًا من الأهداف التي أعلنتها الحكومة في كلمة رئيسها أو في مداخلات وزرائها خلال الأسابيع الفارطة. هنا اعلنت الحكومة أن هدفها من هذا القانون، إضافة إلى تحقيق الاستقرار المالي من خلال تقليص عجز الموازنة، تعزيز الطابع الاجتماعي للدولة وتحفيز الاستثمار لتحقيق نسبة نمو تتجاوز 3 %.
هذه الأهداف، التي تسعى خطة الحكومة وقانون ماليتها الى تحقيقها، قدمت معايير يمكن الاستناد إليها اليوم لقراءة قانون المالية ومعرفة ما إذا كانت انعكاساته المباشرة أو غير المباشرة على الأفراد والمؤسسات الاقتصادية تُنزل هذه الأهداف على أرض الواقع.
إذا استثنينا هدف الحفاظ على توازنات المالية العمومية والعمل على تقليص عجز الميزانية، في انتظار منتصف السنة المالية القادمة لمعرفة مدى تقدم الحكومة في تحقيقه، هدفا تعزيز البعد الاجتماعي للدولة وتحفيز النمو والاستثمار يمكن استشراف آفاق تحقيقهما من خلال قراءة القانون وصياغة محاكاة ذهنية لانعكاسه المباشر.
ما تقدمه هذه العملية خلاصات تتضمن الانعكاسات المباشرة لهذا القانون على مستوى دخل الأفراد. العنصر الإيجابي هنا أن دخل الفئات الهشة والمهمشة قد يستفيد من حزمة الحوافز والمنح التي أُقرت في قانون المالية، الا ان حجم الاستفادة سيكون محدودًا ومقتصرًا على الشرائح الأكثر هشاشة دون أن يكون أفقيًا أو شاملًا، إذ سيقتصر على فئات مضبوطة ومحددة ستستفيد بتحسن دخلها، ولن يكون الانعكاس كبيرا على مؤشرات الاستهلاك الداخلي.
ضعف تأثير الحوافز والمنح الاجتماعية على مؤشرات الاستهلاك في السوق الداخلية هو السمة التي تجمع بين حزمة الإجراءات الاجتماعية الخاصة بالفئات الهشة والإجراءات الجديدة الخاصة بالضريبة على الدخل. بعد تعديلها، يمكن الإقرار بأن العنصر الإيجابي فيها تحسينها النسبي للدخل لمن لا يتجاوز دخله السنوي 50 ألف دينار، بنسب متفاوتة قد لا تنعكس إيجابيًا على الإنفاق الاستهلاكي، أي أن قانون المالية لسنة 2025، وما يحمله من إيجابيات في علاقة بالإصلاحات الضريبية والتوجه نحو العدالة الضريبية، يظل محدودًا في علاقته برفع القدرة الشرائية للأفراد في ظل نسبة التضخم الراهنة. نجاعة هذه الإجراءات الاجتماعية تظل محكومة بعناصر خارج قانون المالية، مثل سياسة التحكم في النفقات العمومية، مما سيؤثر سلبًا على حزمة الخدمات العمومية التي تقدمها الدولة، خاصة في مجالي النقل والصحة.
هنا، نحن أمام محاولة الحكومة عبر قانون ماليتها تحفيز الاستهلاك عبر سياسات اجتماعية تحسن من القدرة الشرائية للأفراد. لكن آثارها ستظل للأسف محدودة إذا لم تقترن بسياسات شاملة لتحفيز الطلب المحلي وزيادة الإنتاجية.
الهدف الثاني الذي أعلنته الحكومة هو تحفيز النمو والاستثمار، والذي تسعى إلى إمكانية تحقيقه من خلال حزمة حوافز وامتيازات جبائية وديوانية ومالية، تختلف من قطاع إلى آخر لكنها تلتقي في نقاط مثل تخفيض الضرائب على قطاعات كالزراعة والطاقات المتجددة والصناعات التقليدية بهدف تشجيع الاستثمار على أمل خلق فرص عمل جديدة.
هذه الحوافز، التي بينت التجارب السابقة في قوانين مالية تونس محدودية أثرها في رفع نسق الاستهلاك الداخلي أو إحداث وظائف، تواجه تحديًا يتمثل في تعثر محركات الإنتاج الكبرى. هذه المحركات هي اليوم تحت ضغط جبائي متصاعد، بعد إقرار المساهمة الظرفية بنسبة 2 % على الشركات الكبرى وفرض ضرائب أعلى على القطاعات ذات الأرباح المرتفعة. وقد يكون لذلك تأثير سلبي على الاقتصاد الكلي اذا لم تصغِ الحكومة استراتيجية واضحة لتحفيز الاستثمار على المديين القريب والمتوسط، مع المراهنة على تحفيز النمو والاستهلاك.