التي تعتبر انها تهدف الى توفير حياة كريمة للتونسيين وضمان توزيع عادل للثروة، عبر مقاربة ظهر منها بالاساس العنصر المتعلق بالتشغيل وهو حاضر بشكل مكثف في الخطاب الرسمي على عكس سياساتها النقدية والمالية التي لا تكاد تحضر في خطابها.
وهذا يعطينا صورة اولية للمقاربة الرسمية لادارة الملف الاقتصادي التي يغلب عليها الهاجس الاجتماعي، اذ يحرص الخطاب السياسي التونسي اليوم على جعل ملف التشغيل بتوفير فرص عمل جديدة او تحسين مناخ العمل وكذلك القضاء على التشغيل الهش وجعل اولويتها الرئيسية التي لا يعرف ما اذا كانت تتنزل في اطار خطة سياسية واقتصادية اشمل ام هي مجرد اجراءات منفصلة.
الناظر الى المشهد التونسي بتتبع الخطاب الرسمي او السياسيات العمومية التي يعتبر مشروع قانون المالية ابرز مظاهرها، سيقف على ان السلطة ممثلة في الحكومة المكلفة بتنزيل السياسات العمومية المرسومة من قبل رئيس الجمهورية، لازالت تتبع ذات الخيارات السابقة، و لا يتعلق الامر هنا بالسياسات او الخطوط الكبرى بل في الاعتماد المفرط على الاجراءات المنفصلة عن بعضها، على الاقل في مستوها الاول، في انتظار صدور تقرير قانون المالية لسنة 2025.
وقد حافظ كمال المدوري على هذه المنهجية في تناوله للملف الاقتصادي والاجتماعي وفق ما كشفه مشروع قانون مالية 2025 والذي لم يحمل ملامح لخطة اقتصادية تنموية جديدة، وهذا ما بينه رئيس الجمهورية لاحقا في خطاب اداء اليمين امام البرلمان بقوله «ان الشعب هو الذي يرسم منواله التنموي وهو الذي يستنبط حلوله الاقتصادية».
مقاربة يبدو انها ستهيمن جزئيا على المشهد الاقتصادي التونسي الذي لم يخرج بعد من دائرة الخطر رغم بعض المؤشرات الايجابية التي منها تراجع نسب التضخم وتراجع العجز التجاري وتقليص الدولة لاعتمادها على الاقتراض الخارجي الذي كان ينعكس سلبا على نسبة التداين الخارجي، اضافة الى استقرار مخزون العملات الاجنبية لاكثر من مائة يوم.
رغم هذا التحسن الظرفي الناجم عن اجراءات حكومية غير معلنة بشكل رسمي، تتمثل اساسا في التحكم في الواردات وتقليص حجمها عبر سلسلة من القرارات والاجراءت المنصوص عليها في قوانين المالية منذ 2022، التي كانت تهدف الى ضمان استقرار مخزون العملة عبر ترشيد عمليات الاستيراد لا عبر سياسيات عمومية تهدف الى استبدال الورادات او تحسين الصادرات.
هذا الاجراءات حتى وان انعكست بشكل ايجابيا مباشر على توازنات المالية العمومية، خاصة في علاقة بمخزون العملات الذي ظل مستقرا بفضل تحويلات التونسيين بالخارج والموسم السياحي والفلاحي، الا انها لا تمنح الاقتصاد او المالية العمومية شروط الاستدامة بل تظل ظرفية رهينة لتقلبات المشهد الخارجي.
استقرار مخزون العملة ليس الخطوة الايجابية الوحيدة المرتبطة بعوامل خارجية، بل كذلك التحكم في نسب التضخم والدين العمومي الخارجي وغيرها من المؤشرات التي تظل فرضيات تحصينها من الهزات هشة، والسبب في ذلك ان السياسات العمومية المتبعة في الملف الاقتصادي والمالي والاجتماعي لم تغادر مربعاتها القديمة رغم وجود عناوين جديدة ابرزها الشركات الاهلية كنموذج اقتصادي تراهن عليه السلطات بشدة.
هذا النموذج اضافة الى بقية خيارات السلطة التونسية تظل غير كافية لمعالجة الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه البلاد منذ عقود، والذي تعقد نسقه واختل توازنه بعد 2011 نظرا الى ان نفقات الدولة اصبحت تتجاوز امكانياتها وهذا سعت اليه الحكومات السابقة الى معالجته بالاعتماد على تدفّق القروض والمساعدات الخارجية والذي ادى الى طفرة استهلاكية غير مستدامة.
هذه الطفرة سمحت بتنشيط الحياة الاقتصادية التونسية نسبيا لتحجب تدهور القدرة الإنتاجية للاقتصاد التونسي الذي تراجع بنسق تصاعدي خلال السنوات الفارطة مما نجم عنه انعدام توازن الاقتصاد الكلّي، مما ولد مخاطر مالية لا يمكن تجاوزها بتحسن بعض المؤشرات ما لم تكن مصحوبة باصلاحات كبرى تنهي الازمة الهيكلية.
اصلاحات يجب ان تقدم عليها السلطات التونسية التي عليها ان تتحرك فوق طبقة من الجليد الهش لضمان ان اجراءاتها وخطتها الاصلاحية لن تكون قاسية ولن تتضمن اجراءات غير شعبية تؤدي الى أزمة اجتماعية، وان لا تتاخر عن اخذ هذه الخطوة لضمان تحقيق هدفين، الاول الاستفادة من التحسن النسبي للمؤشرات والمراكمة عليه بتفعيل خطة اصلاحات لا تقتصر على خفض نفقاتها كخطوة تقشف بل في احداث حركية اقتصادية او صدمة اقتصادية تعيد تشغيل محركات الانتاج في اسرع وقت لمنع تحول ضعف النمو الى ركود يصاحبه تضخم ينجر عنه في النهاية انهيار لا يمكن تجنبه بمحاولات تكيف وترحيل الاعباء الى قطاعات اقتصادية او فئات اجتماعية بعينها.
هذا الخيار الذي تكرر اللجوء اليه في قوانين المالية عبر اجراءات جبائية وفرض ضرائب على قطاعات اقتصادية يمكن ان يكون مسكنا للازمة لكنه لن يحول دون تفاقم الاوضاع التي قد تؤدي الى مرحلة استنزاف مخزون العملات الاجنبية او استنزاف القطاع الخاص بل تفعيل اليات الاستثمار العمومي بما يؤدي الى انكماش اقتصادي سيكون خطوة اولى في مسار صعب تدخل فيه البلاد .
الخيار متاح اليوم للسلطات لوضع سياسات عمومية فعالة وناجعة يمكنها ان تؤدي الى التعافي الاقتصادي والمالي المستدام الذي يمكن من ضمان حاضر ومستقبلها