وهو ما يفسر المعجم الذي تلجأ إليه السلطة عنذ حديثها عن ادارة الملف الاقتصادي، من تشكيك في نسب النمو أو تقديم توزيع الثروة على خلقها، في محاولة لتولد صورة ظلية للواقع تكون فيه كل الاطياف والاجسام ضبابية متداخلة فتولد الارباك الذي قد يحول دون فهم موضوعي للازمة الاقتصادية التونسية.
هذه الازمة ليست وليدة او نتاجا لما بعد الثورة بل أن جذورها تمتد لتغطي عقودا من الزمن قد تتجاوز عمر الاستقلال او عمر الدولة الحديثة، وهنا المجال ليس للبحث عن اصل الازمة ونشأتها او تمظهراتها بل محاولة توصيفها وهذا يعنى الاقتصار على عقود ثلاثة على أقصى تقدير للوقوف على حجم التراجع الناجم عن تأخر الإصلاح الشامل لنظم إنتاج الثروة في تونس.
وهذا يقودنا الى النظر في البنى الهيكلية للاقتصاد التونسي الذي مكن البلاد في الستينيات والسبعينيات من تحقيق نسب نمو هامة بلغت الرقمين حينما قام النموذج الاقتصادي على ما يعرف بسياسة استبدال الواردات، التي وقع تعديلها في السبعينات بما عرف بقانون 72 الذي سمح بتوطين الصناعات التصديرية بها اصبح الاقتصاد التونسي قائما على التصدير أساسا.
نموذج استمر لثلاثة عقود قبل أن تبرز مكامن الخلل فيه، خاصة مع بداية الـ 2000 حينما اتضحت الصعوبات التي واجهتها البلاد في رفع مستوى إنتاجيتها و مواكبة مسار توسّع الأسواق العالمية الذي استفادت منه في المقابل الدول متوسطة الدخل مثلنا ونجحت في تحقيق مكاسب اقتصادية هامة تتجلى في نسب النمو التي حققتها.
في المقابل شهدت نسب النمو تراجعا لتستقر عند 4 ٪ كمتوسط نمو سنوي خلال العقد الاول من القرن الـ 21، وذلك ناتج عن ان البنية الانتاجية للاقتصاد التونسي كشفت بعد عقود عن ضعفها الهيكلي المتمثل أساسا في ان محركات الانتاج تفرز في أغلبها قيمة مضافة منخفضة، وهو ما يكشف ايضا عن الركود الذي أصاب جل الشركات التونسية والتي تصنف 86 ٪ منها شركات الفرد الواحد، وذلك ما انعكس لاحقا على قدرة استيعاب سوق الشغل لطالبي العمل خاصة من أصحاب الشهائد. هكذا تدحرجت كرة الثلج وظلت تتضخم وتصيب دينامكية الاقتصاد التونسي الذي اتسم بأنه اقتصاد موجه للتصدير نظرا لمحدودية السوق الداخلية.
هكذا كان وضع الاقتصاد التونسي عشية الثورة، رغم صلابته الظاهرة المتمثلة في التوازنات المالية وفي مؤشرات اقتصادية ايجابية الا انه كان يعاني من اختلالات هيكلية ادى تفاقمها خلال العقد الأول بعد الثورة إلى تدهور اقتصادي شامل ظهر بشكل جلي في تراجع الإنتاجية في البلاد والذي لم يقع التفطن اليه مباشرة من قبل السياسيين او الشارع التونسي نظر للتدفّقات الضخمة للتمويلات التي اتخذت أشكالا أبرزها القروض والمساعدات الخارجية التي نجمت عنها طفرة استهلاكية شجعها الإنفاق العمومي اساسا مما أدى الى تضاعف حجم عجز الميزان التجاري وارتفاع نفقات الدولة دون نفقات الاستثمار العمومي الذي تراجع بشكل لافت وتراجعت نسبته من الناتج المحلي الإجمالي.
قبل ان تحل سنة 2016 وتطل الأزمة وقع البحث عن الحلول الاسهل لتجنب ردود الشارع العنيفة في المواسم الانتخابية، فنتج عن ذلك ترحيل ذروة الأزمة بانتهاج سياسة الاقتراض والإصلاحات الترقيعية التي كانت تهدف الى كسب الوقت وتجاوز الانتخابات. وهو ما لجأت إليه حكومة الصيد والشاهد بين 2014 و2019 بهدف التحكم في توازنات المالية العمومية بطريقة مصطنعة اتضحت مساوؤها مع أزمة الكوفيد19 وما لحق الاقتصاد التونسي والمالية العمومية من تداعيات سلبية سرعت وتيرة تنامي الأزمة التي ظهرت بمتوسط نمو سنوي بـ1 ٪ خلال السنوات العشر اللاحقة للثورة.
ازمة تتجه اليوم الى التفاقم وهذا ما تكشفه المؤشرات اذا وقع النظر اليها في سياق شامل يهدف الى فهمها بعيدا عن توظيفها سياسيا. عملية رصد المخاطر تبين اننا ازاء معضلة كبرى ناتجة عن مشاكل في المالية العمومية والاقتصاد قد تخفيها سياسات التقشف المتبعة الان ولكنها لن تعالجها بل قد تجعل منها عنصرا قادحا للانفجار.
وهذا ما بينته نسبة نمو 2023 (التي تعد الأسوأ باستثناء سنتين 2020 و 1973) او نسبة النمو للثلاثي الاول من 2024 ونسب التضخم، التي تقدم صورة يمكن اختزالها بالقول: ان الاقتصاد التونسي يعيش على وقع ركود متزامن مع تضخم ركودي إلى جانب اختلال المالية العمومية مما يحد من قدرة الحكومة على التدخل لتحفيز محركات النمو عبر استثمار عمومي يولد حركية اقتصادية في ظل غياب شبه كلي للاستثمار الخاص الاجنبي او الداخلي الذي تراجع حجمه بصفة طردية، من ذلك تقلص حجم الاستثمار الخارجي الى 0.8 ٪ من الناتج الداخلي بعد ان كان متوسط نسبته السنوي يقدر باكثر من 4 ٪ في السنوات 2000و2010.
هذه المؤشرات إذا نظرنا إليها في سياقها الاقتصادي العام السابق للثورة، سنكون أمام صورة مفزعة تتمثل في ان البلاد تمر بأعنف أزماتها المالية والاقتصادية وهي مكبلة حاليا وغير قادرة على فعل مؤسس يخرجها من الازمة، ذلك لان البلاد ومنذ عقود تعاني من معضلة ضعف الحركة الاقتصادية واستئثار القطاع العمومي والاقتصاد غير الرسمي/الموازي بمساهمات هامة في نسب النمو مقابل انكماش أصاب بقية القطاعات الاقتصادية وخاصة منها المعملية.
هنا نحن ازاء ازمة تتجاوز نقطة التوازنات المالية ونسب النمو وغيرها من المؤشرات، اذ اذ اننا ازاء ازمة شاملة وهيكلية تستوجب إصلاحا هيكليا شاملا ينطلق من تصورات مغايرة جذريا لما انتهج خلال السنوات الفارطة من مقاربة تقدم الملاءمة المالية على تحفيز الاقتصاد والذي لا يتحقق دون استثمار خارجي يحقق مكسبين، أولهما ضخ تمويلات في الاقتصاد وتوفير عملة اجنبية وثانيهما خلق وظائف ومستهلكين لتحفيز عملية الاستهلاك الداخلي وهذا مرتهن بقدرة البلاد وسياسييها على اعادة تشكيل المشهد الاقتصادي التونسي وقواعده التنظيمية والتخلص من ما يكبل نمو الإنتاج، من ذلك تعزيز التنافسية في القطاع الخاص في إطار خطة تهدف الى الاستفادة من توجه أوروبا الحالي الى إعادة توطين بعض النشاطات الاقتصادية في دول الجوار لتجنب اضطراب سلاسل التوريد. هنا يجب ان لا نكرر اخطاء الماضي وان نبحث عن نمو اقتصاي سريع يضمن مقومات الاستدامة التي تشمل تحسين جودة التعليم ومضاعفة الإنتاجية بهدف الارتقاء في سلاسل القيمة