لا بديل ديمقراطي عن الديمقراطية الليبرالية: II- في شروط إمكان دولة القانون

قد يتبادر إلى الذهن أن الاساسي في الديمقراطية الليبرالية هو الانتخابات الحرة والنزيهة والتعددية

والتي تسمح بالتداول السلمي على السلطة او النظام الرأسمالي الذي يعطي (في الظاهر) صفة الليبرالية لهذه الديمقراطية. ورغم اننا ازاء ابعاد جوهرية في الديمقراطية الليبرالية إلا أن حجر الاساس فيها هو دون منازع دولة القانون (أو دولة الحق).

مفهوم دولة القانون تتداخل فيه الفلسفة مع الدراسات القانونية لأنه يفترض بداية بتعريف الدولة وتعريف الحق ثم تبيان الشروط الشكلية (les conditions formelles) لكي نطلق على دولة ما صفة دولة الحق او دولة القانون .

هنالك اجماع بين أهل القانون على تعريف الركائز الثلاث الضرورية لدولة الحق

1 - هرمية القاعدة القانونية (la norme juridique) كما عرّفها القانوني النمساوي الأمريكي هانس كلسن (Hans Kelsen) في بداية القرن الماضي وتعني هذه الهرمية ان كل قاعدة قانونية (قانون عادي مثلا) تتأسس على قاعدة قانونية اعلى (الدستور) كما أنها تتضمن اجراءات احداث القاعدة القانونية الأدنى (أوامر ترتيبية) بدرجة تجد سلطة الدولة نفسها مقيدة بهرمية القواعد هذه، اي أن هذه الهرمية تقضي على الاعتباط الذي يمثل المدخل الاساسي لكل تسلطية

2 - المساواة في القانون وأمامه

(l’égalité dans la loi et devant la loi)

بمعنى أن كل مواطني ومواطنات هذه الدولة

متساوون في القانون ولا وجود لأي صنف من أصناف التمييز بينهم كما أنهم سواسية امام القانون لا امام القضاء فقط بل في كل مجالات الشأن العام المنظمة بالقوانين .

وهذا يعني أن كل قوانين تمييزية او معاملة تمييزية على أساس العرق أو الدين أو الجندر او التنشئة الاجتماعية او اللغة تخرج الدولة المعنية من صفتها: دولة القانون .

3 - الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية بما يعني وجوبا استقلال القضاء وعدم خضوع البرلمان إلى السلطة التنفيذية .

هذه هي الاركان الثلاثة لدولة القانون بفقدان أحدها تفقد الدولة المعنية صفة دولة القانون، لكن ماهي شروط إمكان قيام دولة الحق (القانون) وماهي شروط استدامة هذه الاركان كذلك؟

هنا نخرج من القانون ومن فلسفته الى منطقة التوازنات والتناقضات المادية الصلبة التي تحكم علاقة الدولة بالمجتمع.

تاريخيا الانتقال من الدولة / التنين الى دولة الحق لم يكن سهلا بالمرة وقد شهدت منعرجات دموية وحادة وثورات شعبية وتحولات علمية وتكنولوجية واقتصادية كذلك في البنى الذهنية بفضل تعميم التعليم والحراك الفكري والثقافي وحصول حد ادنى من الرفاه ، كان جزء هام منه على حساب سكان المستعمرات، وهذا ما يفسر لِم نشأت دولة الحق في بعض الامم. لكن هذه الدول التي اضحت تخضع إلى الحق داخليا كثيرا ما داسته في علاقاتها الخارجية خاصة مع الشعوب المهيمن عليها .

في كل الاحوال نحن امام مسار طويل ذي تعرّجات عدة ولسنا امام قرار تتخذه الجهات النافذة داخل هذه الدولة.

لا وجود لطريق واحدة للوصول الى دولة القانون، لكن هنالك شرطان اساسيان اذا لم يتوفرا لن تتحول الدولة الى دولة حق بصفة فعلية .

الشرط الاول هو حصول قناعة نهائية لما يمكن ان نسميه بعقل الدولة على ضرورة الاستقلال النسبي عن عقل السلطة حتى يستحيل على هذا الاخير ارجاع الاعتباط في علاقة الدولة بالمجتمع .

لا وجود لخط ثالث بين الحق والاعتباط فإما ان تخضع الدولة الى الحق او ان تحكم وفق الاعتباط، وهذا المسار الطويل الذي تحدثنا عنه آنفا هو الكفيل بإقناع عقل الدولة بأن الحق هو الضامن لديمومتها ولفاعليتها ولإدماج كل فئات وجهات وتوجهات المجتمع من اجل الصالح العام، فالدولة دائمة والسلطة متحولة ومتداول عليها بين مختلف المكونات الفكرية والسياسة للمجتمع.

هنا يخطئ من يعتقد ان الاخلاق او القيم او العلم هي التي ستقنع «عقل الدولة» بالعدول نهاية عن الاعتباط، بل هي موازين القوى بداية وكلفة الاعتباط نهاية هما اللذان اقنعا «عقل الدولة» في بعض التجارب بأن الخضوع الى القانون افضل من الاعتباط واقل كلفة وأكثر فاعلية، وقد اثبتت تجارب عديدة منذ الربع الاخير من القرن العشرين أن الطريق من الاعتباط الى الحق ليست دوما معبدة وان بعض الامم شهدت تجارب مريرة حتى أقتنع «عقل الدولة» بضرورة الانصياع النهائي إلى الحق وان دولة القانون هي وحدها الضامنة لديمومة الدولة .

هنالك شرط ثان ضروري لإمكان قيام دولة القانون وهو الفصل في الاتجاهين بين السلطة السياسية ورأس المال وخضوع الاثنين معا الى دولة القانون.

إن العلاقات الزبونية المسترابة المتبادلة بين اصحاب النفوذ وأصحاب المال يشكل اكبر هي عائق امام قيام دولة الحق ، كما ان استحواذ اهل السلطة على مقاليد الاقتصاد هو وأد في المهد لدولة الحق وطريق سيارة للاعتباط المطلق .

هنا ايضا المسالة ليست أخلاقية او نظرية ولا ينبغي ان نعوّل كثيرا على «كرم» اهل المال وجود «أهل السياسة» اذ ينزع الحكم بطبعه الى العلاقات الحميمية مع الجاه والثروة كما يميل أصحاب المال الى الاستظلال بأهل السلطة حماية لمكاسبهم ودفاعا عن مصالحهم .

قطع الوشائج بين أهل السلطة وأهل المال هو شرط إمكان دولة الحق

(يتبع )

III- لا ديمقراطية سياسية خارج اقتصاد السوق 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115