الإيقاف والإيداع بالسجن في قضايا التعبير: الحرية و قرينة البراءة أولا

مثلت التطورات القضائية والسياسية خلال الأسبوعين الفارطين فرصة للتونسيين

للوقوف على ضعف استبطان جزء منهم لقيم الحقوق والحريات في شموليتها والى ان مقومات العيش المشترك لم يترسخ الأساسي منها بعد في وجدان المجتمع التونسي بما يسمح له بأن يعقلن إدارته للشأن العام وأن ينتصر لإحدى أهم الحقوق والقيم الكونية وهي الحرية.

هنا لا يقصد بالحرية، اطلاقية المفهوم في نزعته الفلسفية على اهمية هذا الامر، بل القصد ما يقرّه المشرع التونسي في قوانينه الجزائية من أن الفرد يتمتع بحقه في الحرية دون قيود تحول بينه وبين حقوقه الطبيعية، وأن سلبه هذه الحرية مقيد ومضبوط بقواعد قانونية هي صارمة نظريا.

لا يجوز لاية جهة كانت ان تسلب حق الفرد في التنقل او حرية الضمير والفكر والتعبير والملكية وغيرها من الحقوق والحريات العامة والفردية التي يفترض ان تكون عماد العقد الاجتماعي المنظم والمحدد لقواعد العيش المشترك بين مكونات المجتمع التونسي والعلاقة بين الفرد والدولة. وهذا الإقرار ضمّن في الدستور وفي النصوص القانونية التي جعلت من سلب الفرد حقه وحريته امرا استثنائيا مضبوط الاركان له قواعد في تطبيقه.

في الأسابيع الفارطة كنا كمجتمع وأفراد ومؤسسات أمام امتحان لصلابة هذه القواعد القانونية ومدى استيعاب المجتمع كمجموعات وأفراد لها ولأهميتها في حماية وضمان حقوقهم وحرياتهم وامتحانا لإيماننا بإطلاقية هذه القواعد القانونية التي تطبق على الجميع دون تمييز يستند على تحيزات شتى.

في الأيام الفارطة عاش المجتمع التونسي ومؤسساته اختبارا قانونيا وثقافيا يتعلق بحماية وضمان الحرية والحقوق، منها حرية التعبير باعتبارها المبدأ والأصل وتقييدها هو الاستثناء والحق في محاكمة عادلة تتوفر فيها قرينة البراءة ويتجنب فيها التشدد في تأويل النص القانوني إن وجدت هذا السماح بالتأويل الذي قد يبلغ درجة التعسف في استعمال الحق القانوني.

في القضايا التي اثيرت ضد الاعلاميين، سنية الدهماني و مراد الزغيدي وبرهان بسيس وهو ثلاثي يلاحق قضائيا بتهم ذات علاقة بمضمون اعلامي وقع انتاجه وبثه عبر وسائل اعلام، او في علاقة باعلانهم عن أرائهم والتعبير عنها ونشرها، أي أنها متصلة بحق كوني ودستوري وهو حرية التعبير التي وقع الإقرار بحمايتها وضمانها مع التنصيص على ان تقييدها هو الاستثناء الذي لا يطبق الا اذا تعلق الامر بخطاب كراهية او التحريض على العنف او بث الاشاعات أو نشر معلومات مضللة او الثلب والتشهير، والقصد من ذلك حماية الافراد والمجتمع من اية اضرار قد تطالها اثناء ممارسة هذا الحق والحرية.

اذا استندنا لما يقره النص الدستوري والقانوني يمكن اعتبار هذا الثلاثي كما عدد آخر من الصحفيين والإعلاميين والنشطاء والمواطنين الذين مارسوا حقهم الطبيعي والدستوري، وهو التعبير عن آرائهم ومواقفهم في علاقة بقضايا تهم الشأن العام، وطرحوها للنقاش العام، وذلك ما يجعل السؤال الحارق لم تتم ملاحقتهم وباية جريمة طالما أن فعلهم هو «الكلمة».

هنا كان الاختبار الثاني لا في علاقة بهل تجرم الكلمة ام لا، بل في علاقة بادارة مسار التقاضي بما يضمن محاكمة عادلة لكل من يشتبه في انه ارتكب فعلا يعاقب عليه القانون. فاذا اشتبهت الجهات القضائية في ان الثلاثي وما صدر عنه من آراء او مواقف تضمنت تجاوزا للقانون، فإن ذلك لا يعنى مباشرة سلبهم حقهم وحريتهم او اسقاط قرينة البراءة التي يشدد المشرع التونسي على ان اية مشتبه به له الحق في الاستفادة منها و ما تمنحه له من امتيازات قانونية.

احد هذه الامتيازات وفق المشرع التونسي وفصول المجلة الجزائية عدم سلبه حريته قبل صدور حكم قضائي بات إلا في حالات محددة ومضبوطة قانونيا يؤكد النص على طابعها الاستثنائي، اي انه وفي الجرائم التي لا تكتسي خطورة ولا تتضمن عقوبات سجنية مشددة فان الاستثناء ان يحصل الايقاف التحفظي والإيداع في السجن اما الاصل فهو ان يتمتع المشبته فيهم بحرياتهم الى حين صدور حكم بات ونهائي، إلا في حالات حصرتها مجلة الإجراءات الجزائية في فصولها وضبطتها ومنها الفصل 84 الذي يعرف إيقاف المشتبه بهم على انه «وسيلة استثنائية» يقتضيها التلبس او ان تكون هناك قرائن قوية تستلزم الايقاف او الخشية من اتلاف الادلة او ارتكاب جرائم جديدة. اما عن بطاقة الإيداع فان الفصول 80 و142 و169 و202 و206 تضبط شروط إصدارها وضوابطها التي تشير إلى أن صدورها اليوم في قضايا تتعلق بحرية التعبير فيه لجوء للاستثناء وتشدد في الاستفادة من الامتياز القانوني الذي يسمح بسلب حرية تونسيين عبر آلية الايقاف التحفظي ثم بطاقة الإيداع في السجن.

للاسف هنا لسنا في حاجة للاشارة الى نتائج هذا الاختبار، فالفضاء العام وما يتضمنه من خطاب وسلوك يكشفان عن أن الوعي الجمعي للتونسيين لم يستبطن بعد الحرية كقيمة اصلية لا يقع تقييدها أو سلبها الا في حالات استثنائية محددة يحرص المجتمع والأفراد على ان تحترم وان تطبق وفق شروطها الموضوعية، وان لا تخضع للتأويل او القراءات التوسعية التي تنزع كل الضمانات الحماية للحري

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115