وهل يمكن لهذا التقييم أن يتجنب الموقف المتعالي والنظرة الاتنوغرافية ؟ ثم هل توجد أسس موضوعية يمكن الاطمئنان اليها في عملية التقييم هذه؟
اسئلة لا يتسع هذا المقال للإجابة عنها، ثم إن المقصود هنا ليس التقييم الأخلاقي والذي لا نملك مادته اليوم بل الحديث عن بعض المظاهر الأخلاقية في الفضاء العمومي، كما أننا سنقصر نظرنا فقط على المظاهر المتعلقة بالشأن العام بالمعنى الواسع للكلمة اذ سنتحدث هنا عن اخلاق العيش المشترك والقيم التي تحكم الفضاء العمومي لا عن اخلاق المجتمع الفردية والجماعية.
الملاحظة الأولى التي ينبغي الانتباه اليها هي ان جل التونسيين لا يهتمون بالشأن العام إلا لِمامًا،فقد كانت ذروة الاهتمام في الاشهر الاولى للثورة الى حدود انتخابات المجلس التأسيسي في اكتوبر 2011 وبعدها تراجعت بصفة مطردة مع بعض الطفرات جراء العمليات الارهابية او الانتخابات العامة لـ2014.
يمكن ان نقول ان من اسباب الاخفاق الجماعي للانتقال الديمقراطي زرع بذور العداوة بين ابناء الشعب الواحد بتعلات عقائدية مغلقة ومتكلسة مرة برداء ديني متطرف قائم على التكفير ومرة اخرى بمسوح شبه مدنية قائمة على التخوين،وفي المحصلة يصبح المختلف فكريا وسياسيا كافرا او ارهابيا (لا نتحدث عن الجماعات التكفيرية الحاملة للسلاح فتلك جماعات ارهابية لا نزاع في ذلك) او خائنا او عميلا ..
الفرضية التي نتبناها هنا أن هذه الصراعات العقائدية القائمة على الاقصاء المتبادل بين اهم الفرقاء السياسيين والتي اتخذت اشكالا مبتذلة في احيان عديدة وفرضت نفسها على عموم التونسيين، نظرا لحضورها المفرط في وسائل الاعلام الجماهيرية، هي التي تسربت تدريجيا الى ما يمكن ان نسميه بالذائقة العامة في استبطان جدلي غريب : فعلى قدر ما يتم استهجان العنف اللفظي، والبدني أحيانا، بين الفرقاء السياسيين يتعمق لدى المتلقى تكفير او تخوين هذا الطرف او ذاك، وهكذا تحول الاقصاء المتبادل من النخب السياسة الى انصارها ثم الى متابعيها حتى ولو بصورة عرضية.
كما ينبغي ان نقول ان الثورة قد اخرجت المكبوت من عقاله مما نتج عنه صبّ كمّ هائل من العنف في شرايين المجتمع.
تضافر هذين العاملين ينضاف اليهما التراجع الكبير لما يمكن ان نسميه بالقدرة الشرائية التّخَيُّلِية (اي ما نتصور انه هو قدرتنا الشرائية وفق نسق الاحتياجات والمطالب الجديدة) لم نجد في المقابل عملا يذكر على مستوى قيم العيش المشترك كما لم تعمل، تقريبا، اية جهة وازنة على ترويض هذا العنف الساري في المجتمع وعلى اشاعة قيم القبول بالآخر المختلف رغم أننا في الاخير بنات وأبناء وطن واحد نختلف في الوطن ولا نختلف عليه، وبدل ان نعمل على توسيع رقعة الاصدقاء والحلفاء عمدنا الى توسيع رقعة الاعداء باعتبارها الطريق الوحيدة الجاذبة للناس والموصلة الى الحكم .
من المفارقات الاخرى (وهي ليست مفارقة في الحقيقة) ان شبكات التواصل الاجتماعي لاسيما «الفايس بوك» قد عملت في بلادنا في الاغلب الاعم على تمزيق وهدم كل جسور التواصل الممكنة مع الاخر بل سجنته في غيريته الجذرية وأحاطته بقيود سميكة من السب والشتم والاستهزاء والاستنقاص علاوة على التكفير او التخوين .
لقد استعضنا تدريجيا عن المواطنة، بماهي اختيار حر واعمال للعقل وتنسيب للاختلاف والقبول بقواعد العيش المشتركة، بعقليبة القبائل المتناحرة القائمة على مبدإ السلم داخل القبيلة والحرب خارجها ..
لقد اشتغلت معاول هدم المشترك بيننا الى درجة ان قيم المواطنة والعقل والاعتدال في الرأي والموقف لم تعد تجد من يدافع عنها.
ان موقف العديدين منا من المهاجرين غير النظاميين، خاصة عندما يكونون من جنوب الصحراء، انما هو تكثيف قصووي لشعور أخذ يتفشى في اوساط عديدة وهو ان العلاقة مع الاخر المختلف هي علاقة نفي وإلغاء بالكامل ،فالمهاجر من جنوب الصحراء يمثل عند العديد من التونسيين المغاير الموغل في غيريته وهو بهذا المعنى «خطر» على «نقاوة» المجتمع لذلك ينبغي اقتلاعه. ولا يشعر هؤلاء التونسيون بأدنى تناقض عندما ينددون بالتعامل العنصري الغربي مع المهاجرين النظاميين وغير النظاميين من ابناء جلدتنا ويمارسون في بعض الاحيان ما لا يجرؤ كبار العنصريين في الغرب على فعله.
هذه عينة مكثفة من ازمة القيم في بلادنا والتي تمسّ جوهر العيش المشترك لا بمعنى التعايش الحافظ للكرامة مع الافارقة جنوب الصحراء (وهو واجب انساني وديني وأخلاقي ) بل بمعنى القبول بالاختلاف كمبدإ عام واعتباره عنصر اثراء لا عنصر غرابة وان الحق والخير والجمال مقسوم بين الناس والشعوب بنسب متساوية، وان تخوين جزء من التونسيين لم يرفعوا السلاح ضد دولتهم انما هو اضعاف لإمكانيات وقدرات البلاد وهو هدم لامكانية وجود قواعد العيش المشترك .
اما السّباب وهتك الاعراض والشماتة الفخورة دون حياء فهي من الاعراض المرضية لهذا الداء الذي ينخر انسانيتنا .
«ديكارت» لم يكن موفقا بالمرّة عندما قال : «العقل هو اعدل الاشياء قسمة بين الناس».
(انتهى)